الخميس، 27 أغسطس 2015

مصادفة



كعادته كان يراقب المحيطين به ويتحدث معها حديثا وهمياً.

إن وصف الحديث بالوهمي ليس دقيقاً تماماً، فالحديث كان جاداً جداً وفيه حميمية واضحة، ولكن كانت هناك مشكلة واحدة فقط.

هي لم تكن هناك.

لقد افترقا منذ أكثر من عشر سنوات ولكنه لم يتوقف يوماً عن الحديث إليها في خياله.

يتحدث إليها طوال الوقت!
يناقش معها كل شيء، ولا يتخذ قراراً بأي شأن من شؤونه قبل معرفة رأيها.

لا، لم يكن مجنوناً.
هو يعي تماما عدم وجودها، ولكنه يعي أيضا عدم قدرته على العيش دونها، وكان يشعر دوما بوجودها إلى جواره، ولذلك كان يتعامل معها وكأنها موجودة بالفعل.
يناقشها.. يتحدث إليها.. يناجيها

بالطبع لم يكن يتحدث إليها بصوت مرتفع.. فقط عندما يكون وحيداً يستطيع الجهر بحديثه دون أن يخشى أن يتهم بالجنون.

كانت زيارته الأولى خارج مصر، وفي محطة قطارات لندن كان الزحام كبيراً.

كان يتفحص كل شيء حوله باهتمام وفضول وشيء من الانبهار.

لاحظ أن السلم الكهربي مزدحم فتوجه إلى السلم العادي وبدأ الصعود بروية.
حانت منه التفاتة نحو السلم الكهربي فوجدها هناك تضع قدميها على درجته الأولى.
جميلة كما كانت دائما.. ترتدي السواد وتنظر أمامها في شرود.
وتجمد الوقت.

صاعدين إلى نفس الوجهة، ليتقابلا وجهاً لوجه بكل تأكيد.

كان يصعد لا أرادياً بنفس سرعة صعودها، وعيناه تحضنها احتضانا، وفي عقله يدور ألف سؤال وألف فكرة.
هل لا تزال تفكر به كما يفعل هو؟ ماذا سيحدث عندما يتقابلان وجهاً لوجه؟ هل يحتضنها كما يتوق أن يفعل أم يتصافحا أم يبتسما ويكملان طريقهما أم يتجاهل كلا منهما الأخر ويمضي في طريقه؟

عشرة ثوان مروا عليه كعمر كامل.
وعيناه متشبثة بها كطفل متشبث بأمه خوفا من الضياع.

قبل أن تصل إلى نهاية الدرج رأته كما رآها، وفي لحظة كان كل منهما يقف أمام الأخر.

تصافحا.. دار بينهم حديث قصير.
خارج المحطة جلسا على مقهى وبدئا حديثا طويلا..

وأصبح كل شيء محتملاً من جديد.

الأربعاء، 12 أغسطس 2015

غروب أخير


جلس على الصخرة البيضاء على شاطيء البحر المنعزل، وأخذ يراقب الأمواج شارداً تماماً.
كان الجو بارداً والسماء ملبدة بالغيوم ولم يتوقع رؤية الشمس مرة أخيرة، ولكنه لم يلق بالاً للأمر بالرغم من أنه أراد بشدة أن يشاهد غروباً أخيراً.
أحكم إغلاق سترته حول جسده النحيل وعيناه صوب البحر وعقله يسترجع ذكريات حياته منذ طفولته وحتى هذه اللحظة.. هذه اللحظة التي يوشك فيها أن يبلغ عامه الأربعين.
كان قد اتخذ قراراً وهو في الخامسة والعشرين من عمره وها هو الآن جاهزا لتنفيذه.
كان قد قرر أنه لو وصل لسن الأربعين ولم يستطع تحقيق أحلامه فلتتوقف حياته إذن عند هذا العمر.
وقتها فكر كثيراً في الأمر وتوصل أنه لو وصل إلا هذا العمر دون أن ينجح في تحقيق أحلامه فلن يستطيع تحقيقها فيما بعد، خاصة أن هذه الاحلام لن تصلح له بعد تخطيه الأربعين، ولذلك جاء إلى هذا المكان المنعزل على شاطيء البحر أملاً في رؤية غروب أخير يرافق غروبه الشخصي.
التفت حوله دون سبب واضح فرآها قادمة من بعيد.
متشحة بالسواد، وشعرها يتطاير بعنف بسبب الرياح القوية.
شعر بضيق.
أراد أن يقضي لحظاته الأخيرة وحيداً.. وحيداً كما كان دائماً.
اقتربت من موضعه وبدت له ملامحها للمرة الأولى.
فتاة رقيقة، هشة، نحيلة مثله.
لا يزيد عمرها عن الخامسة والعشرين بأي حال من الأحوال وبدا واضحاً على ملامحها عدم الارتياح لرؤيته هي الأخرى.
مرت من أمامه وأومأت برأسها محيية بطريقة لا تكاد تلاحظ، وجلست على صخرة أخرى على بعد خمسين متراً من صخرته.
ونظرت أمامها بشرود نحو أمواج البحر المتلاطمة والسحب المكدسة بالسماء.
تأملها لبعض الوقت بفضول.
تبدو حزينة ومتعبة، وعيناها تفيض بالألم.
عاد مجدداً إلى شروده، فاختلست هي بعض النظرات السريعة نحوه.
ظلا على حالهما بعض الوقت.
كلا منهما يختلس النظر نحو الأخر حتى التقت عيناهما فالتفتا مسرعين نحو البحر في خجل، ولكن كل شيء كان قد تغير.
بعد أن التقت عيناهما لم يعد باستطاعتهم ادعاء اللامبالاة، فقام من مكانه وتوجه إليها بخطوات ثقيلة مترددة.
- هل يمكنني الانضمام إليك؟
- لا بأس.
- هل تنوين الانتحار مثلي؟
نظرت له نظرة متشككة وأومأت برأسها.
- عرفت ذلك، هل يمكنني سؤالك عن الأسباب؟
- ليس لدي ما أعيش من أجله، وأنت؟
- اتخذت قراراً عندما كنت في مثل عمرك أن أنهي حياتي إن وصلت لسن الأربعين دون تحقيق أحلامي.
- وهل وصلت لسن الأربعين ؟
- سأصل بعد لحظات.
عادا مجدداً إلى شرودهما، وكلاهما مشاعره مختلطة تماماً، وعلى عكس المتوقع بدأت السحب تنسحب تدريجياً وبدأ ضوء الغروب الملون يظهر أمامهم باستحياء.
كان غروباً جميلاً.. أجمل مما تمناه كل منهما.
نظرا إلى بعضهما مرة أخرى.. نظرة طويلة هذه المرة ثم أمسك يدها برفق.
- هيا بنا.
- إلى أين؟
- لا يهم.
قامت معه وسألته فجأة:
- ماذا كانت تلك الأحلام التي تود إنجازها؟
- لقد تحقق واحداً منهم للتو.
سارا معاً وكل منهما يمسك يد الأخر إلى أن اختفوا في الظلام.

الأربعاء، 22 يوليو 2015

فرصة أخرى



(1)
في مطار شيفول الدولي بالعاصمة الهولندية، نظر أسامة في ساعته للمرة العاشرة في النصف ساعة الأخيرة، ونظر نحو البوابة المخصصة لطائرته التالية في ضيق.

وأخيراً تم فتح البوابة للركاب فتوجه إليها مسرعاً قبل أن تزدحم وقام بإفراغ جيوبه وخلع حزامه وحذائه ووضع كل شيء في الصندوق المخصص ومر عبر الباب الإلكتروني ليقوم أحد رجال الأمن بتمشيط جهاز إلكتروني آخر حول جسده قبل أن يسمح له بالمرور ليأخذ متعلقاته من الصندوق ويرتدي الحزام والحذاء مرة أخرى.

توجه إلى ركن منعزل نسبياً عن بقية الركاب وجلس في انتظار الطائرة. 

كان جالساً خلف نافذة زجاجية تطل مباشرة على الممرات حيث تقف الطائرات استعداداً للطيران.

كان الظلام قد حل منذ بعض الوقت ومع ذلك بدا الجليد واضحاً لعينه في أماكن متنوعة بين الطائرات وهناك سيارة ضخمة تقوم برش الممرات بمادة ما لإذابة الجليد.

انتابته قشعريرة لا إرادية، فنظر حوله متحرجاً من أن يكون قد لاحظه أحد الركاب الأخرين، ثم عاد مجدداً لمتابعة الحركة في الخارج بشرود.

بدا شارداً للحظات ثم التفت مرة أخرى ونظر حوله وكأنه يبحث عن شخصاً ما، شخص كان قد لمحه كومضة سريعة لم يستطع عقله استيعابها إلا بعد عدة ثوان.

كان المكان قد بدأ يتكدس بالركاب لاقتراب موعد الطائرة فلم يتمكن من رؤية أية وجوه مألوفة أو الوجه الذي ظن أنه رآه، فعاد إلى شروده حتى تم فتح ممر الدخول إلى الطائرة.

دخل إلى الطائرة شارداً تماماً، وبصعوبة تمكن من إيجاد مقعده.

جالسا بجوار النافذة، ناظراً نحو الظلام، بدأ يستعيد ذكريات حاول جاهداً دفنها وكلما ظن أنه نجح قفزت فجأة لتتصدر المشهد داخل عقله؛
- لابد أن نفترق. هكذا قالت له إسراء فجأة.
ظن في البداية أنها تمزح، ولكنها أخذت تشرح له وجهة نظرها وهي تبكي.
أخبرته أن علاقتهم لن تستمر وسيأتي الفراق عاجلاً أم آجلاً، وسيكون الأمر شاقاً وعسيراً، ومن الأفضل أن يفترقا باختيارهما.

لم يتفهم الأمر، وأحنقته طريقة تفكيرها.
كيف لمن يخاف فراق مستقبلي أن يفضل عليه فراق فوري؟ هكذا كان يفكر وهو يستمع إليها ويتظاهر بالتماسك حتى انتهت من كلامها فانصرف صامتاً.
كيف بهذه البساطة تنهي حباً استمر لأكثر من ثلاث سنوات، وكلها عدة شهور ويتخرجا من الكلية.
كان غاضباً وحزيناً، وظل يتجنبها حتى انتهت الدراسة والاختبارات.

وبدأ يجهز نفسه لتنفيذ قراره؛ الهجرة إلى كندا.
وأخيرا بعد خمس سنوات من العمل المضني، ها هو في طريقه إلى كندا بعد أن تم الموافقة أخيراً على طلبه للهجرة.
-------------------------------------------------------------------------------------------
(2)
كانت إسراء تشعر برهبة كبيرة وقلبها يدق بعنف.
كانت المرة الأولى التي تسافر فيها خارج مصر، وها هي تسافر وحيدة وإلى كندا التي تبتعد آلاف الأميال عن أهلها.

كانت رحلة هروب في المقام الأول.
لقد ملَت كل شيء، وفي النهاية قررت أن تكمل دراستها بعيداً قدر الإمكان وبعد بحث ومراسلات إلى الكثير من الجامعات وجدت جامعة كندية مناسبة لما تريده ومصاريفها مقبولة نسبياً وتم الاتفاق بينهما على كافة التفاصيل.
بعد ذلك كانت المعركة الكبرى مع أبيها وأمها ليوافقا على سفرها وحيدة إلى الخارج وبعد صراع استمر لمدة شهرين رضخا لها، وها هي في طريقها إلى هناك.

كان الحياة في مصر قد أصابتها بالاختناق وكان من الضروري الابتعاد وبأقصى سرعة ممكنة.
منذ أن تخرجت منذ خمس سنوات والكل ينتظر أن تتزوج وكأن لا دور لها في الحياة سوى الزواج.

كانت قد عاشت في الكلية قصة حب طويلة ولكنها شعرت فجأة بأن العلاقة بينهما لن تستمر وعندما أخبرته بذلك تركها وانصرف وظل يتجاهلها حتى تخرجا ولم تراه مجدداً.
شعرت بغضب كبير تغلب على حزنها وحاولت نسيانه وبالفعل تمت خطبتها بعد تخرجها بثلاثة أشهر، تلك الخطبة التي لم تستمر سوي شهرين قبل أن تنتهي.

وبعد أربعة خطبات فاشلة قررت الهرب من هذا المجتمع الذي يصر أن المرأة لا دور لها سوى الزواج، ولا نجاح لها سوى النجاح في الزواج.
-------------------------------------------------------------------------------------------
بعد رحلة استغرقت ثمان ساعات كاملة، حطت الطائرة القادمة من أمستردام في مطار تورونتو بيرسون الدولي.
أنهى أسامة إجراءات الدخول وهو يكاد يسقط من إعياء رحلة السفر الطويلة، ووقف في مكان خروج الحقائب في انتظار حقيبته.

أنهت أسراء إجراءات السفر بصعوبة وبعد تدقيق في أوراقها وأوراق الجامعة تم السماح لها أخيرا بالدخول.

توجهت إلى أماكن خروج الحقائب مسرعة وهي تنظر إلى الحقائب بحثاً عن حقائبها ولم تنتبه إلى الشاب الذي كان يحمل حقيبته ويلتفت في اتجاهها ليصطدم بها بعنف وتقع على الأرض مع حقيبته.

شعر أسامة بالهلع عندما صدم امرأة بحقيبته فأزاح حقيبته بسرعة ومد للمرأة يده معتذراً بإحراج.

شعر بأن قلبه يوشك على التوقف عندما رآها.. إنها هي بالفعل، لم يكن يهذي عندما لمحها في أمستردام.

فغرت إسراء فاها بدهشة وقلبها يكاد يقفز من صدرها.. إنه هو، بعد كل تلك السنوات يلتقيا هنا.
-------------------------------------------------------------------------------------------
بداية جديدة


الثلاثاء، 23 يونيو 2015

عالمي الافتراضي



لم أعد أحتمل المزيد.
لأكثر من ثلاث سنوات وأنا أعيش حبيس هذه الجدران
أقضي يومي وليلي أمام شاشة الكمبيوتر.
أغلقت الكمبيوتر فساد الغرفة ظلام تام أحبه ويحبني.
تمددت على فراشي، وأغلقت عيني
وبدأت الرحلة...
في البداية شعرت بنسمات الهواء تداعب وجهي وتتحرك بحرية بين خصلات شعري
ورائحة البحر تملأ أنفي
ثم بدأ الصوت يصبح أكثر وضوحاً
صوت حفيف أوراق الشجر والنسمات تداعبها
أصوات الطيور تنشد أنشودتها الدائمة بين الأغصان
أصوات أطفال تلهو بسعادة تأتي من بعيد
وكل هذه الأصوات مختلطة بصوت الأمواج
ثم شعرت بيدها تمسك يدي
فتحت عيناي ونظرت إليها، إنها هي
فتاة أحلامي التي لم توجد أبداً
يدها في يدي
نمشي سويا تحت الأشجار ونتوجه صوب شاطيء البحر حيث يلهو مجموعة من الأطفال بمرح وسعادة.
مشهد متكامل؛
نسمات عليلة .. أشجار جميلة .. طيور تغرد .. أطفال تلهو .. والشاطيء أمامنا
لا ضوضاء .. لا عوادم سيارات .. لا رائحة تراب
هل هذا وهم ؟
هل سأصبح أحمقاً إن اخترت الوهم بدلاً من الواقع؟
ربما. ولكني أختار الوهم 

الخميس، 11 يونيو 2015

إثارة شتوية



أخذ يرتجف بقوة من برودة الجو وتدثر بإزار من الصوف كان لزوجته الراحلة وتوجه إلى المطبخ ليعد لنفسه كوباً من الكاكاو الساخن.

كان في الخامسة والستين من عمره ولم يعد يحتمل البرد كما كان يحتمله في السابق.

ما كان يثير مرارته أنه طوال حياته كان يحلم بامتلاك بيت على الشاطيء، ولم يستطع تحقيق حلمه إلا بعد تقاعده ولم يكد ينتقل إلى البيت الجديد حتى توفت زوجته فجأة أثناء نومها لتتركه وحيدا.

ومن يومها أصبح يكره البيت ولا يرى فيه إلا العيوب.
" ماذا أفعل في هذا البيت الذي يشبه الثلاجة "
كان دائما ما يقول هذا لنفسه بصوت عالي ليبدد الصمت المقيت المحيط به من كل جانب.

انتهى من تحضير المشروب وأمسكه بكلتا يديه طلبا للدفء وتوجه إلى النافذه المطلة على الشاطيء وأزاح الستارة قليلاً وأخذ يراقب الأمطار الغزيرة والجو الملبد بالغيوم.
كان الوقت لا يزال عصرا ولكن الرؤية كانت في منتهى الصعوبة وبدا الوقت كما لو كان ليلاً لغياب الشمس تماماً وراء تكتلات من السحب الكثيفة والأمطار تنهمر بهيسترية تثير الأعصاب.

ارتجف رغما عنه، وأمسك الكوب بقوة أكثر أملا في دفء أكبر.
هم بالانصراف من أمام النافذة والتوجه إلى الفراش والتدثر بالأغطية السميكة ولكنه لمح شبحاً لشخص يتقدم نحو مياه الشاطيء.

في البداية بدا له أنه يهذي فمن المستحيل أن يتحمل إنسان هذا البرد وهذه الأمطار العنيفة، فهو يكاد يتجمد برداً وهو داخل المنزل المغلق بإحكام والمزود بنظام تدفئة لا يجديه نفعا حقيقياً.

ركز بصره في اتجاه الشبح ولكن الرؤية كانت عسيرة حقاً، فوضع نظارته المعلقة إلى صدره وأخذ يعيد النظر مرة أخرى عله ينجح في الرؤية.
وفجأة رأها بشكل أفضل.

كانت تبدو سيدة لم ينجح في معرفة سنها تستند على صخرة على بعد أمتار قليلة من المياه وتنظر أمامها بنظرة ثابتة والأمطار قد بللتها تماما وشعرها المبلل يتحرك بهيسترية نتيجة للرياح القوية.

" ماذا تفعل هذه المرأة! "
هكذا تساءل في حيرة حقيقية.

هي مجنونة على الأرجح، البرد في الخارج قد يقتلها، هل تريد الانتحار؟

هكذا كان يفكر وهو يتأملها ملياً متنقلا أمام النافذة من مكان إلى أخر محاولاً الرؤية بشكلٍ أفضل.
وبهدوء اعتدلت وتوجهت نحو المياه بثقة وأخذت تتقدم رويداً رويداً..

شعر بالفزع، وانتفض، وانسكب الكاكاو على ملابسه، ولم تعد قدماه الواهنة قادرة على حمله، فخرعلى ركبتيه وأخذ يراقبها في عجز وهي تتقدم في المياه خطوة وراء خطوة..

إلى أن اختفت تماما. 

السبت، 11 أبريل 2015

عندما تحول يوم ميلادك إلى ذكرى




أحاول منذ فترة طويلة الكتابة عنكِ دون جدوى، ربما لأني كلما كتبت عنك محاولاً وصف مشاعري بعد رحيلك، وجدت أن الكلمات مبتذلة وسخيفة وعاجزة عن وصف ولو القليل مما أشعر به.
حاولت فقط التحدث عنك ولكن كم بدت لي الكلمات رخيصة مقارنة بكِ.
ها أنا أحاول مجدداً ولا أستطيع، أظنك تعلمين ما تعجز الكلمات القاصرة عن وصفه، وستعذريني أن أبخست الكلمات من قدرك.
جودي..
كنتي ملاكاً يمشي على الأرض وأصبحت ملاكاً في السماء.
بفقدك فقدت الكثير من الأشياء الأخرى، وما تبقى لي من أشياء فقدت معانيها.
كانت هناك الكثير من الأشياء تنتظرنا لنقوم بها سويا في المستقبل، مئات المواقف، مئات الحكايات وبرحيلك اختفى كل شيء قبل أن يحدث، مات قبل أن يحيا.
أعتذر لأني لم أذهب لزيارتك منذ فترة بعيدة وأعدك أن آتيك قريبا.
وكل ما أرجوه منكِ ألا تحرميني من رؤيتك بين الحين والأخر في أحلامي.
فهذا ما تبقى لي منكِ.

الاثنين، 16 مارس 2015

اللقاء الأول




كانت الساعة تقترب من التاسعة صباحاً، ولا تزال صديقتها تغط في نوم عميق، نظرت إليها في حنق، ها هو يوم آخر من الأجازة سيضيع نصفه بسبب حب صديقتها المبالغ فيه للنوم.
تركتها نائمة وتجهزت للخروج وقبل أن تنزل تركت لها ملاحظة صغيرة لتخبرها أنها بالخارج وطلبت منها أن تتصل بها فور استيقاظها.
غادرت الفندق بعد أن سجلت اسم الفندق على تليفونها المحمول خوفاً من نسيانه ولكي تستخدمه لو أضاعت طريق العودة بمفردها.
كانت زيارتها الأولى إلى القاهرة، ولم تتعرف بعد على المدينة، لذا قررت أن تكتشف منطقة وسط المدينة حيث يقع الفندق الذي نزلت فيه مع صديقتها صبيحة اليوم السابق.
كان يومها الأول مملاً جداً، وصلوا إلى الفندق في الخامسة صباحاً، وبعد يوم كامل من الاستيقاظ قررتا النوم قليلاً، ولكن صديقتها لم تستيقظ قبل الثالثة، ولم يغادرا الفندق قبل الخامسة مساءاً.
سارا قليلا في الشوارع المحيطة بالفندق ودخلا أول مطعم وجداه ليسدا جوعهما.
بعد الأكل استمرا في المشي بغير هدى، كانت تريد الذهاب إلى المتحف المصري وتريد أن تزور الأهرامات ولكنها أشياء يجب القيام بها في الصباح وليس ليلاً، لذا استمرا في المشي حتى وجدا أنفسهم أمام نهر النيل، كان المكان مزدحماً بشكل مبالغ فيه، وتعرضتا للتحرش مرارا، خاصة أن صديقتها كانت ترتدي تنورة قصيرة بشكل مبالغ فيه.
كان انطباعها الأول عن المدينة سيئاً، فالشوارع قذرة، والقاذورات في كل مكان، والجو خانق والمكان مزدحم بعدد لا نهائي من البشر.
لذا قررت أن تتعرف على المكان بشكل أفضل، سارت بحذر مبتعدة عن الفندق، عبرت الجسر المار فوق نهر النيل وتوغلت في وسط المدينة.
مع أن الوقت لا يزال مبكراً ومن المفترض أن يكون الناس في أعمالهم ولكن الطرق كانت متخمة بالسيارات، بدأت تبتعد عن الشوارع الرئيسية مفضلة الشوارع الجانبية الأقل ازدحاماً حتى شعرت بالتعب فقررت الجلوس على المقهى الذي وجدته فجأة أمامها.
كان المقهى صغيراً وبلا رواد تقريباً في هذا الوقت المبكر، لم يكن هناك سوى شاب يجلس وحيداً ويقرأ الجريدة بتركيز وأمامه كوب ضخم من القهوة التركي، نظر إليها نظرة عابرة من فوق جريدته وهي تجلس على طاولة قريبة منه ثم عاد مجدداً لتركيزه.
جاءها النادل مبتسماً بارتباك، يبدو أنه لم يعتاد أن يأتيه رواد أجانب أو ربما من النساء، حيته بابتسامة وبلغة إنجليزية طلبت منه كوباً من القهوة التركي، ظل واقفاً وفي وجهه نظرة حيرة وعدم فهم، فقالت له بكلمات بطيئة:
- هل تتحدث الإنجليزية؟
أجابها بارتباك وبإنجليزية مهشمة تماماً:
- لا.. إنجليزي.. لا.
لم تدري ماذا تفعل وهمت بالمغادرة، نظرت إلى الشاب فوجدته يبتسم في سخرية، شعرت بالغضب وهمت بلومه ولكنها فوجئت به يتحدث مع النادل بالعربية، غادر النادل بعدها إلى داخل المقهى مبتسماً، نظرت إلى الشاب وقالت بلهجة جافة:
- ماذا قلت له ؟
أزاح الجريدة جانباً ونظر إليها ملياً، ثم ابتسم وقال: - أخبرته أن يأتيني بكوب آخر من القهوة.
فغرت فاها في دهشة وقالت بصوت خافت: - ظننتك أخبرته بما أريد!
ابتسم ابتسامة كبيرة وقال: - أنا أمزح، لقد أخبرته بالفعل أن يأتيك بالقهوة.
- حسنا، شكرا لك.
- على الرحب.
لحظات وجاءها النادل بالقهوة، أخذت ترتشفها ببطء وهي تراقب بفضول الشاب الذي عاد مجدداً ليغرق في جريدته متجاهلاً أياها تماما.
" ياله من أحمق " قالتها في رأسها مغتاظة من تجاهله أياها بهذا الشكل.
أنهت قهوتها وأعطت النادل النقود التي أشار إليها بأصابعه وغادرت على عجل..

الجمعة، 27 فبراير 2015

لقاء دوري



كعادته وصل قبل موعده بعدة دقائق، سنوات طويلة عاشها في مصر وها هو يقترب من الخمسين من عمره ولازال يحافظ دوما على الوصول قبل موعده بعدة دقائق.
كان على موعد مع محمد صديق عمره، تلك الصداقة التي استمرت لأكثر من خمسة وثلاثون عاماً، وبالرغم من أن محمد كان دائماً ما يتأخر عن موعده ولكنه استمر في الحضور مبكراً كل مرة. مئات المرات يصل قبل موعده وينتظره على المقهى، يرتشف قهوته وينهيها قبل أن يصل.
كان محمد هو الصديق الوحيد الذي تمكن من الاحتفاظ به طوال تلك السنوات، وبينما تساقط الأصدقاء الواحد تلو الأخر بقي كل منهما محتفظاً بصداقته للأخر ومعتزاً بها.
كانا في البداية يقضيان معظم وقتهما معاً، ومع تقدمهما في العمر وزيادة مسئوليات الحياة عليهما استمرا في اللقاء مرة واحدة أسبوعيا، كان لقاء دوري استمر لأكثر من عشرون عاماً حتى الآن.
ومع أن تلك اللقاءات اتخذت محنى روتيني بشكل مبتذل، وأصبح حديثهم في كل لقاء متطابق بشكل كامل مع حديث الأسبوع السابق له والأسبوع السابق للسابق إلا أنهم استمروا في اللقاء على كل حال.
كانت الحديث بينهم يبدأ بأسئلة عن الصحة والأمراض الجديدة التي ظفر بها كل منهما، ثم يتحدثان قليلاً عن عملهما وقليلاً عن أسرتهما وحال الأولاد، ثم ينشغلا بمراقبة التلفاز ومراقبة باقي زبائن المقهى حتى يأتي موعد الانصراف فيفترقا على وعد باللقاء بعد أسبوع.
انتقى طاولة في مكان هاديء نسبياً بعيداً عن التلفاز وعن السماعات المزعجة وطلب قهوته المعتادة وجلس ينتظر ويفكر.
أخذ يتذكر أيام شبابه بأحلامها الوردية، وكيف كان واثقاً من أنه حياته ستكون مختلفة عن الأخرين، وها هو أصبح نسخة كربونية من هؤلاء الأخرين.
ربما كان محمد على حق، لقد كان دائماً ما يقول نحن لم نأتي لهذه الحياة كي نختار، كل شخص يولد ليؤدي دور مرسوم له بدقة ومهما تمرد وحارب ستنهي به الحياة حيث أرادته تماماً. كانا دائماً ما يختلفان حول هذه النقطة وكان يتهمه بالاستسلام والجبن وكان محمد دائماً يجيبه بهدوء " أنت حالم يا صديقي ليس إلا، وستعرف يوماً ما أنني على حق "
ارتشف قهوته مسرعا شاعراً بدوار وألم بسيط في كتفه الأيسر، أمسك كتفه ومال برأسه قليلاً للأمام وأغمض عينيه حتى تذهب حالة الدوار.
وصل محمد ليجده على هذه الحالة، ناداه في هدوء فلم يجبه، هزه بلطف، فسقط على جانبه.
انتفض في هلع وهرع إليه ليفحصه وبدأت الدموع تنساب غزيرة من عينه
لقد تأخر عليه كالعادة، ولكنه هذه المرة وصل بعد فوات الآوان..

الثلاثاء، 24 فبراير 2015

لا جدوى



لقد تيقنت أخيراً أنه لا جدوى، حقاً لقد أخذت الكثير من الوقت حتى توصلت إلى تلك النتيجة، ولكن هذا ليس هاماً أيضاً.

مررت مثل سحابة ليلة صيف لا تحمل مطراً ولم يشعر بي أحد، وقبل أن ياتي الصباح اختفيت كما اختفت هي.

في منفاي الإجباري، جلست وحيدا كما كنت دوماً، في انتظار أن يأتي أحدهم على أمل أن يجيب على أسئلتي الكثيرة التي فشلت في الإجابة عنها.

ربما يكون حاله مثل حالي، لديه أسئلته الخاصة ويحتاج إلى إجابات، ربما نكتفي بسرد وقائع حياتنا الغير هامة لكلينا.

سنضحك على سذاجتنا وربما نبكي في حسرة..

لن يكون مهتماً حقا لمعرفة قصتي ولن أكون مهتماً حقاً لسماع قصته ولكننا سنستمر في الكلام والكلام هرباً من حقيقة أننا خدعنا أنفسنا، وكل ما نفعله الآن هو إنكار الأمر ليس إلا.

سيكون حواراً بلا هدف..

وبالتأكيد.. بلا جدوى.

الأحد، 22 فبراير 2015

ضياع



في غرفة الحجز بمطار العاصمة المكسيكية، جلس حاملاً ابنته المريضة، محاولا تهدئة روع زوجته.

كانت مشاعره مزيجاً من الغضب والألم والشعور بالظلم والقهر، كان يتساءل عن الذنب الذي اقترفوه ليتم احتجازهم بهذه الطريقة .

ساعة كاملة مرت دون أن يتحدث إليهم أحد أو يوضح لهم سبب احتجازهم، ساعة كاملة مرت ولم يتبقى لهم سوى نصف الساعة على طائرتهم المغادرة إلى وجهتهم النهائية.

كانت ابنته مصابة بالسرطان وبعد رحلة علاج بمصر اقتربت من السنتين وصلوا إلى طريق مسدود، وبعد رحلة بحث طويلة لم يجدوا سوى تلك المستشفى بمدينة تيخوانا بالمكسيك التي تستخدم طرق علاج مخلتفة عن العلاج الكيمائي والإشعاعي الذي أضر أكثر مما نفع.

أكثر من 24 ساعة مرت منذ أن بدأوا رحلتهم من مطار القاهرة ولايزال بانتظارهم طائرة أخرى لمدة 4 ساعات يبدوا أنهم لن يلحقوا بها.

أفزعته فكرة ألا يلحق بالطائرة، يجب أن يبدأ كورس العلاج من صباح اليوم التالي كما هو مخطط ولذلك يجب أن يصل إلى تيخوانا قبل الصباح أو على أسوأ تقدير يصل في الصباح الباكر.

قام وأخذ يحوم في الغرفة مثل الأسد عندما يوضع في قفص للمرة الأولى، تبدلت مشاعره إلى الغضب الشديد والحنق وشعور مخزي بعجزه عن التصرف، حاول التحدث مع الجندي الواقف على الباب ولكنه لم يكن يتحدث سوى الأسبانية التي يجهلها هو.

جاءه شخص ما وبإنجليزية ركيكة جداً حاول الاستفسار منه عن سبب الزيارة، أخذ يشرح له كل شيء وأعطاه بيانات المستشقى والفندق الذي سينزل فيه وحيداً حيث ستقيم زوجته مع ابنته بالمستشفى، ولفت نظره إلى موعد الطائرة التي أوشكت على الإقلاع ولكنه لم يبد اهتماماً بالأمر وتركه وانصرف.

مرت الدقائق ثقيلة حتى حان موعد إقلاع الطائرة ليأتيه موظف أخر ويعطيه جوازات السفر ويخبرهم أنهم يمكنهم الذهاب الآن، أخبره أن طائرته قد أقلعت بالفعل وسأله عما يفعل ولكنه فيما يبدو لم يفهمه ولم يهتم.

خرجوا إلى حيث تقبع حقائبهم بانتظارهم والساعة تقترب من العاشرة مساءاً والمطار شبه خاوي حيث صادفت الليلة ليلة الكريسماس.

بعد أن سأل كل من تواجد في المطار عما يمكنه أن يفعل الآن، عرف أنه يجب عليه التوجه إلى صالة السفر الأخرى حيث كان من المفترض أن يلحق بطائرته وحيث توجد شركة الطيران الداخلي ليحاول السفر على إحدى الرحلات القادمة.

حاملين ابنتهم وحقائبهم توجها هو وزوجته إلى الصالة الأخري ليجدا مكتب الطيران قد أغلق أبوابه ولن يفتح قبل الصباح.

في صالة السفر الكبيرة، الخالية تماماً إلا منهم، وقفوا شاعرين بالضياع التام... 

السبت، 21 فبراير 2015

عجز



جالساً في مكانه المعتاد، مكتئباً كعادته، واضعاً قدمه المصابة على كرسي أمامه، أخذ يفكر في حالته والأحداث التي أدت إليه.
لم يكن لديه شيء آخر يفعله سوى التفكير، مرت ثلاثة أشهر منذ الحادث الذي نجا منه بمعجزة حقيقية لم يتمناها بل على العكس، كم كان يتمنى أن تنتهي حياته في ذلك اليوم، بدلاً من تحمل آلام الجسد وآلام العجز.
ها هو الشاب ذو الستة وعشرين عاماً يجلس عاجزاً في غرفته بينما أخاه الأصغر الطالب اضطر إلى العمل بجانب دراسته ليتحمل الأعباء المادية لكليهما.
كان يشعر بالشفقة تجاه أخيه، بالتأكيد كانت حياته ستصبح أفضل لو اختفى هو منها، فبعد وفاة أبيهم بدلاً من أن يكون هو سنداً له جاء هذا الحادث ليقلب الأمور رأساً على عقب، بدلاً من أن يعول هو أخيه الطالب انعكست الآية ليصبح هو من يحتاج إلى من يعوله.
فكر في البحث عن عمل ولكنه ما لبث أن أزاح الفكرة جانباً بعد أن تخيل نفسه داخلاً على صاحب العمل متكئاً على عكازه، كان من المفترض أن يبدأ مرحلة العلاج الطبيعي منذ شهر ولكنهم في غنى عن المزيد من الأعباء المادية.
ولكن لابد من وجود حل فلا يمكن أن يقضي ما تبقى له من عمره مقعداً في انتظار الصدقة من أخيه، تلك الصدقة التي لن تستمر إلى الأبد ففي النهاية سيحتاج أخاه إلى أن تكون له حياته الخاصة وأن يتزوج، مثله مثل الجميع.
قام بصعوبة بالغة متكئاً على عكازيه وتوجه نحو جهاز الكمبيوتر وقام بتشغيله وذهب في رحلته الاضطرارية إلى الحمام، تلك الرحلة التي أصبحت مغامرة متكاملة منذ إصابته.
عاد إلى جهاز الكمبيوتر وجلس متألماً، دخل إلى الإنترنت وقرر أن يتفقد بريده الإلكتروني الذي لم يتفقده منذ شهور.
وجد مئات الرسائل الجديدة، بدأ في تفقدها بسأم ماسحاً الرسائل مجهولة المصدر وفجأة انتفض كمن تعرض لصاعقة كهربية، ففي وسط تلك الرسائل وجد رسالة منها.
هيَ التي حاول جاهدا نسيانها - وإن فشل - ولكنه كان يزيحها عنوة عن تفكيره كلما ضبط نفسه متلبسا بالتفكير فيها، كانت العلاقة بينهما في غاية الصعوبة عندما كان سليماً معافى والآن بعد أن أصبح عاجزاً باتت تلك العلاقة مستحيلة.
كانت قد تركته فجأة وبدون مقدمات منذ ما يزيد عن الستة أشهر، كم شعر بالتعاسة حينها ولكنه ما لبث أن تبين صواب قرارها الحكيم، ففراقهم كان محتوما، ولكن يبدو أن الحكمة قد تخلت عنها وها هي ترسل له رسالة جديدة لا يجد في نفسه القدرة حتى على فتحها وقراءتها.
لا لن يقرأها، هو متأكد أن قراءة تلك الرسالة ستزيد من تعاسته.
لا لن يقرأها، إذا تحسن حاله يوما ما ربما يقرأها وربما لا يفعل.
فحينها سيكون قد فات الآوان.

الجمعة، 20 فبراير 2015

رحلة قصيرة



كانت الدموع تملأ عينيه وهو يقف على جانب الطريق السريع.
كان الظلام دامساً في هذا الوقت، حيث تخطت الساعة الثالثة فجراً بنصف الساعة.

كانت نصف ساعة عاصفة. كان نائماً بعمق ليستيقظ فزعاً على صوت هاتفه المحمول ليأتيه صوت أخيه الأصغر الباكي ليخبره بموت أبيه:
" كان أبيك مريضاً جداً في المساء ولكنه رفض الذهاب إلى المستشفى وطلب مني الذهاب إلى النوم لأنه سيخلد إلى النوم هو الآخر. ذهبت إلى غرفتي ونمت قليلاً ثم شعرت بقلق مباغت فذهبت لتفقده فوجدته جالساً بسكون عجيب وعينيه مفتوحة قليلاً ورأسه مائله قليلاً نحو كتفه، حاولت إيقاظه ولكنه لم يتحرك، أسرعت إلى المستشفى القريب وأحضرت طبيب بعد معاناة وعدنا لنجده على حاله. فحصه الطبيب ثم أخبرني أنه توفى وذهب بعد أن أخبرني أن أذهب إليه صباحاً ليقوم بعمل شهادة وفاة له "

كانت هذه كلمات أخيه وسط البكاء والنحيب، لم يكن لديهم أقارب تقريباً، فأبيهم وأمهم المتوفية منذ خمسة عشر عاماً لم يكن ليديهما أية أخوة أو أخوات.

كان أخيه الصغير الذي لم يكمل بعد عامه العشرين يشعر بفزع وضياع ولا يعرف ما يمكن فعله في حالات مثل هذه.

طمأنه بكلمات مبعثرة وأخبره أنه سيتحرك على الفور وسيفعل ما بوسعه ليصل إليه سريعاً، وها هو يقف على الطريق السريع ينتظر أى سيارة تقله إلى وجهته أو إلى مكان يمكنه أن يجد فيه سيارة تسافر به إلى القاهرة.

كانت السيارات العابرة قليلة جداً وتعبره بسرعة متجاهلة إشاراته مما أصابه باليأس، فبدأ يمشي بجانب الطريق مع الاستمرار في التلويح للسيارات العابرة آملا أن تتوقف له إحداهم.

مشي لمدة نصف ساعة تقريباً قبل أن تتوقف له سيارة حديثة لم يتبين نوعها أو أرقامها في الظلام، وجد داخلها شابا في مثل عمره يبدو أجنبيا قليلا، وبعربية متعثرة قليلاً قال له:

- إلى أين تذهب في هذا الوقت؟

- شكراً لتوقفك، أريد أن أذهب إلى القاهرة، والدي قد توفى منذ قليل، ويجب أن أعود سريعاً، أنا مهندس وأعمل بإحدى المشروعات هنا.

هكذا أجابه وهو يلتقط أنفاسه بصعوبة.

تعاطف الشاب معه. فتح له الباب ودعاه للركوب، لينطلق مسرعاً ويخبره أنه كان متوجهاً إلى الإسكندرية ولكن هذا ليس مهماً فلا شيء مهم ينتظره هناك على أية حال وسيذهب به إلى القاهرة وسيصل به حتى بيته أيضا.

شكره بحرارة، ثم قال:

- لا تبدو مصريا، كذلك لغتك العربية متعثرة قليلاً.

ابتسم له وقال:
-  لست مصريا فعلاً، أنا أمريكي ولكني أعيش هنا منذ ست سنوات تقريبا.

-  حقاً، أشكرك مرة آخرى، وأسف أنني أفسدت مشاريعك.

-  لا عليك، فليس لدي أمر هام.

كان الطريق خالياً تقريباً مما ساعده على الانطلاق بسرعة كبيرة وما لبث بعد دقائق أن انحرف إلى طريق العلمين - القاهرة ليطلق لسيارته العنان.

كان كلاهما غارقاً في أفكاره الخاصة، كلاهما كانا من النوع الهاديء الذي لا يتحدث كثيراً، وفجأة حدث صوت فرقعة قوية واهتزت السيارة بعنف ليضغط الأمريكي على المكابح بعنف ليزداد الأمر سوءً وتدور السيارة بعنف حول نفسها وهي تتجه بسرعة كبيرة إلى جانب الطريق وما أن وصلت إليه حتى انقلبت مراراً متوغلة داخل الصحراء لتستقر على جانبها الأيمن.

حدث الأمر في ثواني معدودة، مرت ببطء شديد عليهما وكأن الزمن قد توقف.

كان يراقب محاولاته المستميتة للسيطرة على السيارة وما أن بدأت السيارة في الانقلاب حتى بدأ يصطدم بأشياء لم يتبينها وبدأت الرؤية تتحول لومضات لا تزيد عن أجزاء من الثانية.

كان الأمريكي راقداً فوقه تماماً والدماء تملأ كل شيء.. دماء لا يعرف أهيَ دماءه أم دماء الأمريكي. 
كان يشعر بآلام في جميع أنحاء جسده والخدر يزحف حثيثاً نحو جسده والرؤية تزداد ضبابية إلى أن خبت نهائياً.

الخميس، 15 يناير 2015

حالة



شاطيء منعزل
الساعة تقترب من الثالثة صباحاً، لا إضاءة سوى ضي القمر
الأمواج قوية والهواء منعش.

ها هو يظهر قادماً من بعيد يرتدي السواد كعادته.
يتوغل في الرمال حثيثاً تاركاً مسافة آمنة بينه وبين المياه خوفاً من البلل.
شعور بالسكينة يغمره
تاركاً العالم القبيح خلفه، يسير متمتعاً بجمال الليل والرمال والبحر.

لا صوت سوى السيمفونية الصادرة عن الأمواج.
متمنياً استمرار اللحظة إلى الأبد، نظر تجاه الأفق حيث اعتادت الشمس أن تشرق منذ الأزل وكأنه يرجوها أن تتمهل قليلاً.

أفاق من شروده على صوت هاتفه، أخرجه من جيبه ونظر إلى الرقم الذي ارتبط في ذاكرته بمشاعر لم يألفها من قبل، مشاعر حب صافية لا تشوبها شائبة.

جاءه صوتها القادم من على بعد آلاف الأميال وإن شعر حضورها طاغياً وكأن روحها تحوم حوله في هذا المكان الساحر، حقاً لقد كان المكان ساحراً وله شخصيته الخاصة وكأنه يخطف روحيهما ليجمعهما معاً في تلك اللحظات الاستثنائية.

دام اللقاء وقتاً لا يجوز قياسه بالطرق التقليدية، وقتاً تم اختلاسه من زيف الواقع، كانت اللحظة تستمر إلى الأبد وفي نفس الوقت تمر مرور البرق في السحاب.

لحظات سعادة مثل تلك لا يمكن لها أن تستمر، حالة مثل هذه مقدراً لها أن تنتهي آجلاً أم عاجلاً، هكذا أخذ يفكر بعد أن انتهت المكالمة وجلس على الرمال محاولاً البقاء في هذا الحلم قدر استطاعته.

حقاً أنه حلم جميل، هو يعلم أنه حلم ومهما طال الوقت فلابد من أن يستيقظ في النهاية، ولكنه كأي شخص يحلم ولا يستطيع التفرقة بين الحلم والواقع بدا له الحلم أكثر واقعية من حياته الحقيقية وبدا الفراق بعيداً ومبتذلاً إلى حد بعيد.

طرد الأفكار السلبية من رأسه، متمسكاً بجمال اللحظة وتمدد شابكاً كفيه وراء رأسه، متأملاً النجوم المتألقة في الفضاء وتوحد تماماً مع مكونات المشهد.

رمال باردة، سماء صافية تمتليء بنجوم كحبات الماس، والبحر يضيف موسيقاه الخاصة جاعلاً المشهد متكاملاً بلا نقصان.

ظل على حاله حتى انتصرت الشمس أخيراً وبدأ ضوئها يتسلل بهدوء وثقة لتحل محل بقية النجوم وتلون الأفق بألوان زادت من سحر المشهد.

قام شاعراً بالقوة تملأ كيانه كله، أخذ شهيقاً عميقاً وأخرجه بهدوء: 
" لا شيء يمكنه إيقافي الآن "
قالها وهو يغادر المكان ممتلئاً بالثقة.