الخميس، 27 أغسطس 2015

مصادفة



كعادته كان يراقب المحيطين به ويتحدث معها حديثا وهمياً.

إن وصف الحديث بالوهمي ليس دقيقاً تماماً، فالحديث كان جاداً جداً وفيه حميمية واضحة، ولكن كانت هناك مشكلة واحدة فقط.

هي لم تكن هناك.

لقد افترقا منذ أكثر من عشر سنوات ولكنه لم يتوقف يوماً عن الحديث إليها في خياله.

يتحدث إليها طوال الوقت!
يناقش معها كل شيء، ولا يتخذ قراراً بأي شأن من شؤونه قبل معرفة رأيها.

لا، لم يكن مجنوناً.
هو يعي تماما عدم وجودها، ولكنه يعي أيضا عدم قدرته على العيش دونها، وكان يشعر دوما بوجودها إلى جواره، ولذلك كان يتعامل معها وكأنها موجودة بالفعل.
يناقشها.. يتحدث إليها.. يناجيها

بالطبع لم يكن يتحدث إليها بصوت مرتفع.. فقط عندما يكون وحيداً يستطيع الجهر بحديثه دون أن يخشى أن يتهم بالجنون.

كانت زيارته الأولى خارج مصر، وفي محطة قطارات لندن كان الزحام كبيراً.

كان يتفحص كل شيء حوله باهتمام وفضول وشيء من الانبهار.

لاحظ أن السلم الكهربي مزدحم فتوجه إلى السلم العادي وبدأ الصعود بروية.
حانت منه التفاتة نحو السلم الكهربي فوجدها هناك تضع قدميها على درجته الأولى.
جميلة كما كانت دائما.. ترتدي السواد وتنظر أمامها في شرود.
وتجمد الوقت.

صاعدين إلى نفس الوجهة، ليتقابلا وجهاً لوجه بكل تأكيد.

كان يصعد لا أرادياً بنفس سرعة صعودها، وعيناه تحضنها احتضانا، وفي عقله يدور ألف سؤال وألف فكرة.
هل لا تزال تفكر به كما يفعل هو؟ ماذا سيحدث عندما يتقابلان وجهاً لوجه؟ هل يحتضنها كما يتوق أن يفعل أم يتصافحا أم يبتسما ويكملان طريقهما أم يتجاهل كلا منهما الأخر ويمضي في طريقه؟

عشرة ثوان مروا عليه كعمر كامل.
وعيناه متشبثة بها كطفل متشبث بأمه خوفا من الضياع.

قبل أن تصل إلى نهاية الدرج رأته كما رآها، وفي لحظة كان كل منهما يقف أمام الأخر.

تصافحا.. دار بينهم حديث قصير.
خارج المحطة جلسا على مقهى وبدئا حديثا طويلا..

وأصبح كل شيء محتملاً من جديد.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق