الأحد، 14 أغسطس 2016

الحنين الضائع


كما أقول دائماً؛ إن كل إنسان هو حالة خاصة، وليس بالضرورة ما ينطبق عليك ينطبق على إنسان أخر، وأظن أن هذه هي المعضلة الكبرى لعلم النفس.
سأتحدث عن الحنين؛
تحدثت مع بعض الأصدقاء فوجدت أن كلاً منهم يحمل تعريفاً مختلفاً للحنين، لذا فسأتحدث عن الحنين كما أفهمه أنا.
الحنين لا يكون للحدث أو الموقف في حد ذاته، الحنين يكون للمشاعر التي انتابتك إبان حدوث هذا الموقف، فنحن نشعر بالحنين لمشاعرنا القديمة، ويظهر هذا بوضوح عندما تحاول تكرار موقف حدث في الماضي أو تقوم بزيارة أماكن مرتبطة بطفولتك. وقتها ستصاب بصدمة وإحباط لأنك لن تجد مشاعرك القديمة بتكرار الموقف، فالمشاعر لا يمكن صناعتها.
نصل هنا إلى النقطة التالية؛ ما هي المشاعر التي نثمنها ونشعر نحوها بحنين جارف، يجعلنا نتمنى تكرارها مراراً وتكراراً.
أظن أن هذه المشاعر لن تخرج عن سعادة خالصة أو راحة بال طفولية.
وهنا يأتي دور الذاكرة.
إن للذاكرة تأثير ضخم على الحنين، الذاكرة تعبث بنا وتلهو كما تشاء، ننسى الكثير من الأشياء وتنتقي لنا الذاكرة القليل من المشاهد لنتذكرها، فنشعر بالحنين للحظات الجميلة التي نتذكرها.
كما قلت؛ لكي نشعر للحنين يجب أن نتذكر مشاعر السعادة الخالصة أو راحة البال الطفولية، وهذا ما يحدث عادة، فعقلنا يضع تلك المشاعر في المقدمة وينسينا أي مشاعر سلبية مرافقة لتلك المشاعر حتى يكون للحنين معنى.
ماذا لو كان الإنسان لا ينسى؟
ماذا لو كان يتذكر تلك المشاعر الجميلة ولكنه في نفس الوقت لا يزال محتفظاً كذلك بالمشاعر السلبية التي رافقت تلك اللحظات الجميلة؟ هل وقتها سيشعر بالحنين؟
لا أظن ذلك.
من يتذكر الصورة كاملة، من الصعب جداً أن يشعر بالحنين، إلا في حالات نادرة، وهي أن تكون مشاعره الجميلة تلك كانت صافية، لم يعكر صفوها أي مشاعر سلبية.
لذا فقد ذهبت إلى القول "إن من لا ينسى لا يشعر بالحنين"
فمن يرفض عقله نسيان المشاعر السلبية التي رافقت لحظاته السعيدة سيكون بالتأكيد قد ضيع الحنين إلى الأبد. 

الاثنين، 8 أغسطس 2016

أحلام متكررة


عادة لا أشغل عقلي بالتفكير في الأحلام التي تزورني في مناماتي، هذا إنْ تذكرتها في المقام الأول، ففي أغلب الأحيان عند استيقاظي تفر الأحلام من ذاكرتي فرار الإنسان من الموت، وكل ما يعلق بذاكرتي هو أنني كنت أحلم فقط.
هناك حلمان يتكرران معي كثيراً ومنذ سنوات طويلة، ولذلك فقد علقا بذاكرتي رغماً عني، أحدهما حلم سعيد والأخر حلم سيء.

الحلم الأول هو حلم الطيران، وأُسميه حلم تحدي الجاذبية الأرضية.

أمنيتي الأولى كانت ولا تزال هي الطيران؛ الطيران بمعناه الحرفي، أن أستطيع تحدي الجاذبية الأرضية، لأطفو في الهواء.
ولاستحالة الأمر فقد انتقلت هذه الأمنية من فكري الواعي إلى اللاوعي، وبدأت تتبور بصورة واضحة في أحلامي، ولطالما استمتعت بالطيران أثناء نومي.
سأحاول وصف الأمر؛ يشبه الأمر فقداني لوزني، وبذلك أستطيع الطفو في الهواء، فقط دفعة خفيفة للأرض لأطفو في الهواء وأفرد يداي كجناح وهمي وأستمتع بالطيران.
مثل السباحة يحتاج الأمر إلى تدريب حتى تتقنه، وهذا ما حدث بالفعل.
طوال سنوات كان طيراني متعثراً، قريباً جداً من الأرض، وأحتاج من وقت لآخر لملامسة الأرض لأحصل على دفعة جديدة تمكنني من الطيران لبضعة أمتار أخرى، ومع مرور الوقت وتكرار التجربة ربما لمئات المرات، تحسنت بشكل ملحوظ وزاد ارتفاعي عن الأرض، وقل عدد مرات ملامستي للأرض، حتى أنني في مرة من المرات استطعت الطيران بسرعة كبيرة نسبياً، وإنْ لم يتكرر أمر السرعة هذه مرة أخرى.
أظن أنني فضلت الطيران بسرعة بطيئة لأستمتع أكثر، فالسرعة ضد الاستمتاع، وكلما قلت السرعة زاد الاستمتاع.

الحلم الثاني هو حلم عدم الاستعداد، وأسميه حلم متلازمة خريجي كلية الهندسة.

هذا الحلم هو كابوس حقيقي، وأظن أنني بحاجة إلى علاج نفسي لأتخلص منه.
وهذا الحلم باختصار يتمحور حول عدم استعدادي لاختبار ما عليَ أن أخوضه في وقتٍ محدد، ويمر الوقت سريعاً دون أن أستعد بشكلٍ كافٍ.
حلم يبدو عادياً، ولكن تكراره يؤثر على مشاعري بشكل سلبي، خاصة أنه خلال هذا الحلم أستعيد مشاعري الحقيقية أثناء فترة الدراسة والكم الهائل من الاختبارات التي كنت مضطراً لخوضها.

كنت أظن أن هذا الحلم خاص بي إلى أن اكتشفت بالصدفة أن أحد أصدقائي يعاني من نفس الحلم، وهو خريج كلية الهندسة هو الآخر.

الثلاثاء، 2 أغسطس 2016

دائرة القدر



وقف على أطراف القاعة المزدحمة متخفياً وسط الظلام والضوضاء ينظر تجاه العروس بحسرة.

لا يعلم لماذا يفعل هذا، ما الذي دعاه للحضور ليرى حبيبته تزف إلى غيره، كل ما يعرفه أنه كان لزاماً عليه أن يحضر.

ربما كان يتمنى نظرة حزينة تطل من عينيها اللاتين طالما هام بهما عشقاً.. نظرة حزن ترضي غروره كعاشق.. تلك النظرة التي لم يحصل عليها مع الأسف.

فالسعادة البادية عليها لا يمكن بأي حال أن تكون مصطنعة أو مزيفة. هي سعيدة حقاً، الأمر الذي اعتصر قلبه بشدة.

ألقى نظرة أخيرة ولكن هذه النظرة خص بها العريس، غريمه، هذا الرجل الذي يكبرها بخمسة عشر عاماً، فوجده يبتسم برضا، لقد انتصر عليه وإن كان في الغالب لا يعرف أن له منافس.

انسحب بعدها من القاعة بهدوء.

طوال الشهور التي تلت ذلك الموقف، كان يقضي جل وقته يفكر فيه ويستعيده المرة تلو الأخرى، مسترجعاً علاقته بها التي استمرت لأربع سنوات كاملة لتنتهي لأسباب مادية بحتة.

ما كان يحزنه حقاً هو أنها لا تعلم الأسباب الحقيقية وراء إهماله لها حتى دفعها دفعاً لتركه وإنهاء تلك العلاقة.

بعدما تخرجا من الجامعة تم قبوله في التجنيد الإجباري لتضيع سنة أخرى من العمر، وفي تلك السنة توفى والده لتقع مسئولية أسرته على عاتقه.

كان والده محاسباً بإحدى الشركات الخاصة، وبعد شهور من المعاناة استطاعوا صرف معاشه الهزيل، الذي بدا واضحاً للجميع أنه لن يكفي حاجة أسرة مكونة من أم وثلاثة أبناء غيره يدرسون في مراحل تعليمية مختلفة.

كانت أيامه في التجنيد قد قاربت على الانتهاء وكان يجلس وحيداً في الظلام في موقع خدمته عندما رأى المستقبل بوضوح أمامه.

رأى أن عليه أن يعمل بشكل عاجل، وأن يقبل بأي وظيفة يستطيع الحصول عليها ليشارك في مصاريف البيت.

وفي وضع مثل هذا لن يتمكن بالتأكيد من ادخار المال الكافي ليتمكن من الزواج، على الأقل لعدة سنوات قادمة.

ومن وقتها أصبح يتعامل معها بعصبية وإهمال مما دفعها دفعاً لتركه في النهاية.

تظاهر بعدها باللامبالاة حتى أمام نفسه، إلى أن وجد نفسه يتلصص رغماً عنه على حسابها على الفيس بوك ليستقصي أخبارها حتى علم بأمر زواجها الذي حدث بسرعة لم يتوقعها ولم يتمناها بكل تأكيد.

كان لا يزال لديه أمل في أن تتحسن أحواله، ويحاول مرة أخرى التواصل معها ويخبرها بكل شيء لتعود المياه إلى مجاريها، ولكن كل شيء انتهى الآن.

بعد عدة شهور من الاكتئاب التفت مجدداً إلى مستقبله، إلى أن جاءته فرصة للعمل بالخارج فسافر على الفور.

في الفترة الأولى من سنوات غربته كان يقضي جل وقته يتلصص على حسابها ويستقصي أخبارها التي كانت تزيد من تعاسته، خاصة كلما رأى صورة جديدة لها والسعادة تطل بوضوح من محياها.

كان مشاعر الغيرة تلتهمه لأنها ببساطة سعيدة بدونه، سعيدة وهي بعيدة عنه.

بعدها أغرق نفسه في العمل وتفرغ لجمع المال لأكثر من اثنتا عشر سنة، وأخيراً رضخ لتوسلات أمه بالعودة والاستقرار والبحث عن زوجة تناسبه.

خلال تلك السنوات تزوج اثنين من أخوته ولم يبق سوى الأخ الأصغر الذي لا يزال في سنته الأخيرة في الجامعة، وها هو يقترب من السابعة والثلاثين ولم يتزوج بعد.

كان أمه قد أعدت له بالفعل أكثر من عروس ليختار فيما بينهم. أخذ يتطلع إلى الصور بلامبالاة حقيقية حتى رآها.

كان تشبه إلى حدٍ كبير حبيبته التي ظن أنه قد اقتلع ذكراها تماماً من عقله ولكنه اكتشف أن تلك الذكريات كانت تتحين فقط الفرصة المناسبة لتنقض عليه وتتركه صريعاً مهزوماً.

تردد كثيراً قبل الذهاب لزيارتها بصحبة أمه وأخذ يماطل قدر استطاعته إلى أن رضخ في النهاية.

كان يخبر أمه أنها تصغره بخمسة عشر عاماً، ولن تقبل به بالتأكيد، بينما تؤكد له أمه أنه عريس لا يُرفض.

وحدث كل بشيء بسرعة لم يتوقعها، وفجأة وجد نفسه وسط قاعة الأفراح يراقص زوجته المستقبلية ونظرات السعادة والرضا تملأ محياها.

وفجأة ومضت فكرة في رأسه دفعته دفعاً لينظر نحو الطرف البعيد للقاعة حيث الباب ليرى ذلك الشاب يغادر في هدوء.