الأربعاء، 22 يوليو 2015

فرصة أخرى



(1)
في مطار شيفول الدولي بالعاصمة الهولندية، نظر أسامة في ساعته للمرة العاشرة في النصف ساعة الأخيرة، ونظر نحو البوابة المخصصة لطائرته التالية في ضيق.

وأخيراً تم فتح البوابة للركاب فتوجه إليها مسرعاً قبل أن تزدحم وقام بإفراغ جيوبه وخلع حزامه وحذائه ووضع كل شيء في الصندوق المخصص ومر عبر الباب الإلكتروني ليقوم أحد رجال الأمن بتمشيط جهاز إلكتروني آخر حول جسده قبل أن يسمح له بالمرور ليأخذ متعلقاته من الصندوق ويرتدي الحزام والحذاء مرة أخرى.

توجه إلى ركن منعزل نسبياً عن بقية الركاب وجلس في انتظار الطائرة. 

كان جالساً خلف نافذة زجاجية تطل مباشرة على الممرات حيث تقف الطائرات استعداداً للطيران.

كان الظلام قد حل منذ بعض الوقت ومع ذلك بدا الجليد واضحاً لعينه في أماكن متنوعة بين الطائرات وهناك سيارة ضخمة تقوم برش الممرات بمادة ما لإذابة الجليد.

انتابته قشعريرة لا إرادية، فنظر حوله متحرجاً من أن يكون قد لاحظه أحد الركاب الأخرين، ثم عاد مجدداً لمتابعة الحركة في الخارج بشرود.

بدا شارداً للحظات ثم التفت مرة أخرى ونظر حوله وكأنه يبحث عن شخصاً ما، شخص كان قد لمحه كومضة سريعة لم يستطع عقله استيعابها إلا بعد عدة ثوان.

كان المكان قد بدأ يتكدس بالركاب لاقتراب موعد الطائرة فلم يتمكن من رؤية أية وجوه مألوفة أو الوجه الذي ظن أنه رآه، فعاد إلى شروده حتى تم فتح ممر الدخول إلى الطائرة.

دخل إلى الطائرة شارداً تماماً، وبصعوبة تمكن من إيجاد مقعده.

جالسا بجوار النافذة، ناظراً نحو الظلام، بدأ يستعيد ذكريات حاول جاهداً دفنها وكلما ظن أنه نجح قفزت فجأة لتتصدر المشهد داخل عقله؛
- لابد أن نفترق. هكذا قالت له إسراء فجأة.
ظن في البداية أنها تمزح، ولكنها أخذت تشرح له وجهة نظرها وهي تبكي.
أخبرته أن علاقتهم لن تستمر وسيأتي الفراق عاجلاً أم آجلاً، وسيكون الأمر شاقاً وعسيراً، ومن الأفضل أن يفترقا باختيارهما.

لم يتفهم الأمر، وأحنقته طريقة تفكيرها.
كيف لمن يخاف فراق مستقبلي أن يفضل عليه فراق فوري؟ هكذا كان يفكر وهو يستمع إليها ويتظاهر بالتماسك حتى انتهت من كلامها فانصرف صامتاً.
كيف بهذه البساطة تنهي حباً استمر لأكثر من ثلاث سنوات، وكلها عدة شهور ويتخرجا من الكلية.
كان غاضباً وحزيناً، وظل يتجنبها حتى انتهت الدراسة والاختبارات.

وبدأ يجهز نفسه لتنفيذ قراره؛ الهجرة إلى كندا.
وأخيرا بعد خمس سنوات من العمل المضني، ها هو في طريقه إلى كندا بعد أن تم الموافقة أخيراً على طلبه للهجرة.
-------------------------------------------------------------------------------------------
(2)
كانت إسراء تشعر برهبة كبيرة وقلبها يدق بعنف.
كانت المرة الأولى التي تسافر فيها خارج مصر، وها هي تسافر وحيدة وإلى كندا التي تبتعد آلاف الأميال عن أهلها.

كانت رحلة هروب في المقام الأول.
لقد ملَت كل شيء، وفي النهاية قررت أن تكمل دراستها بعيداً قدر الإمكان وبعد بحث ومراسلات إلى الكثير من الجامعات وجدت جامعة كندية مناسبة لما تريده ومصاريفها مقبولة نسبياً وتم الاتفاق بينهما على كافة التفاصيل.
بعد ذلك كانت المعركة الكبرى مع أبيها وأمها ليوافقا على سفرها وحيدة إلى الخارج وبعد صراع استمر لمدة شهرين رضخا لها، وها هي في طريقها إلى هناك.

كان الحياة في مصر قد أصابتها بالاختناق وكان من الضروري الابتعاد وبأقصى سرعة ممكنة.
منذ أن تخرجت منذ خمس سنوات والكل ينتظر أن تتزوج وكأن لا دور لها في الحياة سوى الزواج.

كانت قد عاشت في الكلية قصة حب طويلة ولكنها شعرت فجأة بأن العلاقة بينهما لن تستمر وعندما أخبرته بذلك تركها وانصرف وظل يتجاهلها حتى تخرجا ولم تراه مجدداً.
شعرت بغضب كبير تغلب على حزنها وحاولت نسيانه وبالفعل تمت خطبتها بعد تخرجها بثلاثة أشهر، تلك الخطبة التي لم تستمر سوي شهرين قبل أن تنتهي.

وبعد أربعة خطبات فاشلة قررت الهرب من هذا المجتمع الذي يصر أن المرأة لا دور لها سوى الزواج، ولا نجاح لها سوى النجاح في الزواج.
-------------------------------------------------------------------------------------------
بعد رحلة استغرقت ثمان ساعات كاملة، حطت الطائرة القادمة من أمستردام في مطار تورونتو بيرسون الدولي.
أنهى أسامة إجراءات الدخول وهو يكاد يسقط من إعياء رحلة السفر الطويلة، ووقف في مكان خروج الحقائب في انتظار حقيبته.

أنهت أسراء إجراءات السفر بصعوبة وبعد تدقيق في أوراقها وأوراق الجامعة تم السماح لها أخيرا بالدخول.

توجهت إلى أماكن خروج الحقائب مسرعة وهي تنظر إلى الحقائب بحثاً عن حقائبها ولم تنتبه إلى الشاب الذي كان يحمل حقيبته ويلتفت في اتجاهها ليصطدم بها بعنف وتقع على الأرض مع حقيبته.

شعر أسامة بالهلع عندما صدم امرأة بحقيبته فأزاح حقيبته بسرعة ومد للمرأة يده معتذراً بإحراج.

شعر بأن قلبه يوشك على التوقف عندما رآها.. إنها هي بالفعل، لم يكن يهذي عندما لمحها في أمستردام.

فغرت إسراء فاها بدهشة وقلبها يكاد يقفز من صدرها.. إنه هو، بعد كل تلك السنوات يلتقيا هنا.
-------------------------------------------------------------------------------------------
بداية جديدة