الاثنين، 5 ديسمبر 2016

ما وراء الكتابة



أردت أن أكتب لكَ ما أشعر به، كانت الأفكار واضحة ومرتبة في رأسي، بيد أنني ما أن جلست وأمسكت بالقلم، حتى تبخر كل شيء من رأسي.

هل تذكر عندما كان النقاش يحتدم بيننا حول أمر ما، وقتها تنساب الكلمات من بين شفتاي بسهولة، مرتبة، ولكنها لا تكون كذلك في الحقيقة.

عادة ما تكون تلك الكلمات بعيدة كل البعد عما أقصده، وكأن تلك الكلمات تخرج من فم لا يأخذ أوامره من عقلي، وما أن أسمعها حتى أكتشف مدى سخافتها، فأحاول التعبير عما أقصده حقاً بكلمات أوضح.

أقترب كثيراً مما أريد قوله في المحاولة الثانية، وإنْ لم أنجح يوماً في تحويل أفكاري المجردة لكلمات مسموعة.

عندما اتجهت إلى الكتابة، كنت أظن أنها - أي الكتابة - يمكنها أن تحرر عقلي، ويمكنني إخراج الأفكار والمشاعر التي تملأ رأسي حد التخمة، ولكني مرة أخرى كنت مخطئاً تماماً.

في البداية حاولت التركيز على ما يشغلني أكثر من أفكار، وما يختبئ داخل عقلي حبيساً يتوق إلى الفرارمن زنزانته الضيقة، وأعترف حتى لا أكون جاحداً، أن الكتابة حقاً باستطاعتها تحرير الأفكار من أسرها، ولكن غالباً ما تتحرر أفكار أخرى غير ما أقصدها، وما أريد لها الحرية.

وبالرغم من ذلك، وجدت في ذلك متعة، وكأن أفكاراً جديدة تولد على يد القلم، ولادة سهلة حيناً، وعسيرة أحياناً.

لذا فبدلاً من تجهيز أفكار أود الكتابة عنها، بعدما اكتشفت سخف ذلك، فبدأت أمسك بالقلم دون أن أحمل أية أفكار مسبقة، تاركاً له الحرية كاملة ليكتب ما شاء له أن يكتب، واكتفي بالجلوس على مقاعد المشاهدين، أراقب وأتدخل أحياناً معيقاً تدفق الأفكار، الأمر الذي غالباً ما يؤدي إلى توقف عملية الكتابة برمتها، لأغرق في أفكار أخرى، أفكار لم أستطع يوماً ترجمتها لكلمات، فتتزاحم مع الأفكار الجبيسة داخل عقلي.

لماذا أكتب إذن إذا لم اكن قادراً على البوح بما يعتلي به صدري ويضج به عقلي؟ لا أعلم يقيناً الإجابة الحقيقية على هذا السؤال، ولكني مع ذلك سأحاول جاهداً، فستصبح هذه الرسالة بلا معنى إنْ لم أستطع الإجابة على هذا السؤال.

كما أخبرتك، عندما أترك أمر الكتابة للقلم، عادة ما تخرج أفكاراً جديدة لم أفكر بها من قبل، أو لنتوخى الدقة، أفكار لم تكن تتصدر المشهد في رأسي، وكانت مختفية وسط زحام الأفكار، فيبدو لي التحلص من تلك الأفكار شيئاً جيداً، فربما يتاح لي بعد التخلص منها استحضار أفكاري الملِحة وتحويلها إلى كلمات.

صحيح أنني لا أتخلص من تلك الأفكار بشكل كامل، فبخروجها من عقلي تتولد أفكاراً جديدة لتحل محلها، ولكن ذلك أيضاً يبدو لي شيئاً جيداً، فاستمرار الأفكار يعني استمرار القدرة على الكتابة.

ذلك يشعرني أنني لايزال لدي ما أقوله، وأن كلماتي لم تنضب بعد، وهذا أمر طبيعي، من وجهة نظري، فإذا ما استطعت يوماً من التخلص من كل الأفكار التي تثقل صدري، فوقتها سيكون عليّ التوقف عن الكتابة، لأن الكتابة وقتها ستصبح ضرباً من الهراء، ومحاولة لتضييع وقتي ووقت القارئ التعس، الذي ساقه حظه العسر لتقع كلماتي أمامه.

ومثل الحجر الذي يلقى على سطح الماء الساكن فيحركه ويعيد إليه الحياة، تلك الأفكار الجديدة تعيد الحياة إلى تخمة الأفكار الحبيسة داخل العقل، ولابد لها من التحرك لتفسح المجال للمزيد من الأفكار.

لذلك توقفت عن محاولة قول ما أريد قوله، فقد أثبتت التجربة فشل الأمر تماماً، وأحاول الالتفات على نفسي، وخداع عقلي، وذلك بمحاولة طرح الفكرة من بعيد تاركاً للقلم حرية إصاغتها بأسلوبه وطريقه، وقد أثبت ذلك فاعلية في بعض الأحيان، فاعلية تجعل ما يكتب يقترب قليلاً من أفكاري الرئيسية.

صحيح أن ذلك يخرج القشور فقط وما اقترب من السطح، ولا يغوص في أعماق الفكرة كما أحب، ولكن القليل من الوجود خير من العدم.

وها أنا أُنهي رسالتي دون أن أستطيع التعبير عما كان يجيش به صدري في بداية الرسالة. تباً.