الأربعاء، 15 أبريل 2020

كابوس



استيقظت فجأة واحتجت لثواني لأعي ما حولي.
الظلام كثيف، وصوت القطار العابر بعيدًا يبدو واضحًا، والزجاج يهتز مصدرًا صوتًا كئيبًا.
أغمضت عيني لأكمل النوم، ولكن -ورغمًا عني- بدأ عقلي يحلل المعلومات ليخرج بنتائج:
مادام الظلام مسيطرًا إذن لم أنم كفاية، ساعتين بحد أقصى، فقد عانيت أرقًا طويلًا قبل أن أتمكن من النوم.
وسبب استيقاظي قد يكون صوت القطار واهتزاز الزجاج، نعم من المفترض أنني اعتدت على هذا الصوت ولكني كلما كانت أعصابي ملتهبة، أو أعاني أرقًا فأقل صوت يضج مضجعي.
لم أستطع مواصلة إغماض عيني ففتحتهما وشعرت أن الغرفة الضيقة تكتم على أنفاسي. كثيرًا ما ينتابني هذا الإحساس.. أقوم من نومي بلا سبب جوهري وأحس أن غرفتي تحولت إلى قبر ضيق، لا متسع لأتحرك ولا هواء لأتنفس.
رأيت مرة هذا في حلم واضح: "أستيقظ في ظلام حالك والهواء شحيح.. أكاد أختنقأستند بيدي لأقوم فتنغرس في رمال.. أنتفض مرتاعًا فيصطدم رأسي بسقف قريب.. أتخبط بين الجدران الضيقة وأصرخ بلا صوت.. لقد دُفنت حيًا"
عندما استيقظت من هذا الكابوس أخذت أعب الهواء عبًا ولم تستطع غرفتي احتوائي فخرجت إلى الشوارع وأخذت أهيم على وجهي حتى علت الشمس وأخذ ظلامي الداخلي يخبو رويدًا.
من وقتها كلما استيقظت ليلًا وجاءني هذا الإحساس فررت من ضيق غرفتي إلى رحب الحقول.
ارتديت ملابسي وتسللت إلى الخارج حتى لا يشعر بي الجد.. في سكون الليل بدأت أتنفس الهواء الشحيح، والظلمة تكاد تبتلع عظامي.
سرت تقودني العادة نحو محطة القطار، واحد من أمكنتي المفضلة في القرية.
لثلاث سنوات ركبت القطار يوميًا للذهاب إلى المدرسة الثانوية في المركز.. أربع سنوات قضيتها في الجامعة بعيدًا في العاصمة.. أربع سنوات وأنا أقسم يوميًا أنني لن أعود أبدًا، وفي النهاية عدتُ.
هل كان يراقبني؟
هذا هو التفسير المنطقي الوحيد، في ذلك اليوم نجحت أخيرًا في الحصول على عمل.. عدت إلى غرفتي المؤجرة سعيدًا فوجدت الجد يجلس بانتظاري، مثل الموت يأتي بلا استئذان.
لا أستطيع مواجهته، لم أنجح يومًا في ذلك.
مهما كان غضبي، ورغمًا عن كرهي العميق له -صدقًا لا أكره أحدًا مثلما أكرهه- فإنني لا أستطيع حتى مخالفة أوامره.. نظرة واحدة من عينيه تخلع قلبي.
ولكني سأمت جبني الأزلي فاستجمعت شتات شجاعتي ونظرت إليه نظرة متحدية، فنظر إليَ ثواني ثم قام وتوجه إلى الباب وقبل أن يخرج ودون أن يلتفت نحوي قال:
- أعرف أين تعيش أمك.. لا تنسى ذلك. وغادر.
بعدها بساعة انطلق بنا القطار عائدين إلى القرية الملعونة، بجملة واحدة استطاع وأد تمردي اللحظي وجري خلفه لأعود تحت سيطرته المطلقة.. مجددًا.
***
هو الشيطان!
عندما مات أبي أخذني الجد من أمي لبيته وقريته، ويعلم الله ماذا فعل وكيف هدد أمي وأهلها حتى يبتعدوا عني بشكل نهائي.
كطفل في الرابعة من عمري لم أعِ ما حدث، وظننت لسنوات أن أمي ماتت مثل أبي وكلما ذهبت مع الجد إلى قبر أبي دعوت لأبي جهرًا.. ولأمي سرًا.
عشت طفولة بائسة بين جدي المتسلط وأعمامي وأولادهم الذين يكرهوني لسبب مجهول.
دأب الجد على الحط من شأني، وتعامل معي دائمًا كأن بي علة ما تجعلني دون البشر، وفي المدرسة الثانوية سمعت عنه حكايات تشبه الأساطير، وكيف أنه -وبالرغم من وجوده في قريتنا المنسية- يمتلك نفوذًا يجعله يتصرف في رقاب الناس كيفما شاء دون رقيب أو حسيب.
رأيته بنفسي مرارًا كيف يتعامل بعنف مع من يخالف أوامره، أو حتى يجرؤ على مناقشته.. في يوم حار من أيام شهر أغسطس سمعته صوته العالي، هرعت من غرفتي مراقبة ما يحدث متواريًا عن الأنظار، رأيته يصيح ويسب رجل عرفته من هيئته، واحد من صغار الملاك في قريتنا لا أعرف اسمه، حاول الرجل أن يبدي اعتراضًا فما كان من جدي إلا أن قام وهو يزبد وتناول عصا حديدية كانت بجواره وهوى بها فوق رأس الرجل فسقط دون كجوالٍ فارغ.
لم يكتف الجد بفعلته وأخذ يركله بقدمه في وجهه حتى اختفت ملامحه، ثم أمر عمي الأكبر بفعل ما ينبغي.
عرفت فيما بعد أن ما ينبغي هو حرق الجثة حتى تصبح رمادًا في محرقة صُنعت خصيصًا من أجل هذا، ويلقى بالرماد في مصرف القرية.
ومرت السنوات حتى نسيت كيف كانت تبدو أمي، حتى سمعت مصادفة أحد أبناء عمومتي يتباهى بسطوة جدي أمام واحد من أصدقائه وكيف أخذني من أمي وهددها لتبتعد عني حتى أنه أكره أهلها على ترك المركز حيث اعتادوا العيش وتركوا المحافظة كلها خوفًا من بطش الجد.
عشت مشوشًا لشهور لا أعرف حقيقة مشاعري، هل أغضب على هذه الأم التي تخلت عني وتركتني لهذه الحياة البائسة أم أشفق عليها؟
مرة تجرأت على الجد بعد أن صفعني لسبب تافه كعادته، وقلت إنني أريد الذهاب لأمي لأعيش معها، وما حدث بعدها لن أنساه أبدًا.
صفعني صفعة تبدو بجانبها الصفعة الأولى كهدهدة طفل رضيع.. صفعة ألقتني أرضًا بوجه متورم وفم يمتلئ دمًا، وقال:
- لن ترى أمك ما دمتُ حيًا.. لقد أقسمتُ على ذلك، وأقسم الآن أمامك أنك لو حاولت مجرد محاولة الخروج عن طاعتي، فسأقتلها شر قتلة.
وقد كان قادرًا على ذلك.. أعلم يقينًا أنه قادر على فعل ذلك.
من بعدها وأشعر طوال الوقت أنني أعيش فوق ألغام ستنفجر في أي لحظة.. أحصل على أقل القليل من الحياة شاعرًا بأنها منة وتنازلًا من الجد.
***
جلست في مكاني المفضل في المحطة المهجورة، وأخذت أراقب السماء السوداء التي بدأت تكتسب لونًا، والقضبان التي بدأت تظهر على استحياء.
كانت المحطة بلا إضاءة، ومكتب التذاكر مهجور منذ عامين لموت الموظف السابق، ولم تهتم الدولة بإرسال بديل حتى الآن، وربما لن تفعل.
يمر القطار التالي في السابعة صباحًا كما أعرف، يتوقف لدقيقة أو أقل ثم يستكمل مسيره.. أشعر أنه يومًا ما لن تتوقف قطارات هنا، سينسى العالم أمرنا.. هو لا يعرفنا من الأساس، ولكن الأمر وقتها سيكون رسميًا.. سنصبح بلا وجود بشكل رسمي.
زادتني الفكرة اكتئابًا فقمت ودرت دورة حول القرية أعادتني إلى البيت الكبير.. بيت الجد، بيت كبير وقبر لي أسكنه.
لمحت الجد عند البئر خلف البيت.. البئر الذي يبدأ منه الجد يومه، أخبرني يومًا ما أن جده هو من حفره ويحب أن يغتسل منه كل صباح، ومحرم على الجميع استخدام هذا البئر حتى نحافظ على مائه قدر المستطاع.
ساقتني قدمي نحوه دون إرادة مني، عندما اقتربت كان الجد ينحني موجهًا كشافه نحو عمق البئر ليرى منسوب المياه.. دمدم بسباب...
دفعته بقوة فهوى في البئر وسمعت اصطدام رأسه بقاع البئر وصرخته المكتومة.
ماذا فعلت؟!
العرق يغمرني.. لا أستطيع التنفس.
رؤيتي مشوهة وأشعر أنني أحلم.. واحد من كوابيسي التي لا تنتهي.. نفس المشاعر.. كما الحلم تتحرك أطرافي دون مشورتي.
هل قذفته حقًا؟
وجدتني أحدق في سقف غرفتي.. العرق يغمرني.. والصياح يرتفع في الأسفل، والنساء تولول.. لقد مات الجد.
زلت قدمه ووقع في البئر.. هكذا أخبروني.
بكاء ودفن.. عزاء وقرآن.. تناوش وعراك على الميراث.
لا أحد يعبأ بي.. لن يفتقدني أحد.
وقفت على المحطة أرتجف بالرغم من حرارة الجو.. قلبي يكاد يتوقف خوفًا ألا يتوقف القطار هذه المرة.. فقط هذه المرة توقف.. أتوسل إليك، فقط هذه المرة.
أرتقبه منذ الأزل.. لقد تأخر كثيرًا.. لن يأتي أبدًا.
وأخيرًا أسمع صافرته العالية.. يظهر القطار مسرعًا.. لن يتوقف.. دقات قلبي تطن في أذني أعلى من صوت القطار.. سيمر ويتركني.. لن أحتمل دقيقة أخرى هنا.
لن أفوت هذا القطار مهما حدث، إما أن يتوقف فأستقله، أو لا يتوقف فأموت تحته.
وتوقف القطار أمامي، وقدمي فقدت القدرة على الحركة.. يدي تتخشب على مقبض حقيبتي، والثواني تمر.. صفير آخر ويتحرك القطار وقبل أن تزداد سرعته تعود إليَ الحياة وأقفز داخله وأسقط على الأرضية وأستمع إلى صوته فوق القضبان وهو يبتعد ويبتعد عن القرية الملعونة والضوء يتسع ويبتلع كل شيء.