الثلاثاء، 29 مايو 2018

بارانويا


(1)
لستُ مجنونًا كما يدّعون.. استمع إليَّ.. سأخبرك بكل شيء، ووقتها ستعرف كم أنا عاقل.
بدأ كل هذا عندما قررتُ أن أصبح كاتبًا.
قرأت آلاف الكتب وأخذت لثلاث سنوات أكتب روايتي الأولى.. تحفتي الفنية، وعندما انتهيت منها، أخذتُ أتخيل الثناء الذي سأحصل عليه والمجد الذي سيأتيني زاحفًا.
كم كنت غرًا!
أرسلتها لدار نشر كبيرة وانتظرت طويلًا ولكنهم لم يعبئوا حتى بالرفض.
أرسلتها لدار تلو الأخرى، بعضهم تجاهلني تمامًا والبعض الأخر رفض العمل دون إبداء أسباب، وعندما آيست جاءني اتصال هاتفي.. اتصال هاتفي ملعون.
المتصل هو ناشر كبير أخبرني أنه يود ملاقاتي لمناقشة أمر مهم، وحدد لي موعدًا صبيحة اليوم التالي.
تغيبت عن العمل، وتأنقت كأنني ذاهب إلى حفل عرسي، وقد كنت سعيدًا كشخص يتزوج ليبدأ حياة جديدة، وكيف لا! وقد جاءني أخيرًا اتصالًا من الناشر بنفسه.. لابد أن روايتي أبهرته.
كم كنت غرًا!
بعد ساعة من الهُراء والكثير من التلميحات التي لم أفهمها، قرر الناشر أخيرًا التحدث بشكل مباشر وصريح.
أخبرني صراحةً أن روايتي ليست جيدة بما يكفي ليغامر بنشرها، خاصة لأنني كاتب مغمور لم يسمع بي أحد، ومع ذلك سينشرها إذا تمكننا من الاتفاق.
اللعين!
"انظر.. فلنتحدث بصراحة. روايتك ليست سيئة وتُنبئ بكاتب جيد، ولكنها في نفس الوقت ليست جدية بشكل كافي لأغامر بنشرها. لابد أنك قد أرسلتها للكثيرين غيري، ولم يوافق أحدهم على نشرها.. نعم أعرف ذلك.. هذا طبيعي. لكي تنشر هذه الرواية ليس أمامك سوى سبيلين عليك أن تختار أحداهما.
الأول، أن تنشر الرواية على نفقتك الخاصة، هناك عشرات الدور ممن ينشرون الرواية على نفقة الكاتب.. نعم.. نعم أعرف أنك ترفض هذا، ولذلك ليس أمامك سوى الطريق الأخر.
سأنشر لك روايتك على نفقة الدار، وأظنك تعرف جيدًا كم ستجني من ذلك، يكفي أنك ستتمكن من نشر روايتك القادمة بسهولة، كون روايتك الأولى نُشرت، ومع دار كبيرة.
ولكن لدي طلب واحد.
أحتاج رواية أخرى بعد شهرين على الأكثر. نعم، أعرف أن هذا صعب، ولكنه ليس مستحيلًا.
هل تعرف الكاتب (.......)؟ نعم الذي مات مؤخرًا.. غفر الله له وأسكنه فسيح جناته. تعرف بالتأكيد أنه كاتب كبير ولديه ملايين القراء في الوطن العربي كله.
إذا كنت متابعًا جيدًا للوسط الثقافي ستعرف أننا أعلّنا أن هناك رواية أخيرة لهذا الكاتب تعاقدنا معه على نشرها في الموسم الصيفي القادم.. الملايين ينتظرون هذا العمل.
نعم سؤال جيد، ما شانك أنت بهذا الموضوع. سأخبرك.
الرواية التي طلبتها منك للتو سنقوم بنشرها باسمه، ويمكنك أن ترى كيف أثق بك وبإمكانياتك، وأرجو أن تكون أهلًا لهذا الشرف.
نعم، بالتأكيد هذا شرف كبير، أن تتمكن من كتابة رواية تليق باسم المرحوم.
أعرف أنك تحتاج للتفكير في الأمر ولكني للأسف لا أملك الوقت، لذا أريد إجابة الآن.
عرضي كالتالي: تحضر لي رواية جيدة بأسلوب الكاتب الكبير خلال شهرين، وننشر الروايتين معًا في الموسم الصيفي.
موافق! جيد.
لضيق الوقت، أريدك أن ترسل لي كل أسبوع جزءًا من الرواية، حتى أتأكد أن الأمور تسير بصورة جيدة، وفي حالة تخلفك ولو لأسبوع واحد، سنعتبر أن هذه الجلسة لم تحدث قط.
وداعًا.. أراك الأسبوع القادم."

(2)
لا أعرف كيف وافقت على هذا العرض اللعين، ولكن هذا ما حدث، غلبني اليأس والإحباط فوافقت.
لثلاثة أيام عجزت عن كتابة كلمة واحدة، حتى أنني قررت الاتصال بالناشر والاعتذار له، ثم تذكرت حقدي نحوه، فقررت تجاهله وتجاهل الأمر كله وعندما يمر الأسبوع سيعرف وحده أنني لن أكتب له شيئًا.
كنت قرأت لهذا الكاتب بعض أعماله ولم تعجبني.. هو ليس سيئًا ولكنه ليس مميزًا كما ينبغي أن يكون من يمتلك مكانة مثل مكانته.
رواياته مترهلة تمتلئ بالحشو، وفي كل الأعمال التي قرأتها له استخدم نفس الحبكة وهي حبكة ضعيفة تضفي على أعماله عدم تماسك لا أفهمه، بالإضافة إلى أنه لا بد من أن يقحم بعض المشاهد الجنسية في رواياته بلا داعي.
قبل يوم واحد من انتهاء المهلة عدت من عملي متعبًا فقررت النوم. نمت نومًا عميقًا لأستيقظ في الثالثة فجرًا.
كنت أكره هذا الأمر بشدة، عندما استيقظ في وقت مثل هذا ولا يمكنني مواصلة النوم، ويكون اليوم التالي مرهقًا.
ولكن ما باليد حيلة.
صنعت كوبًا من القهوة وجلست أحتسيه وفجأة جاءتني فكرة.
الفكرة كانت كتابة رواية سيئة رديئة تمتلئ بالأخطاء كانتقام من الجميع، من الناشر الجشع، والقراء على حد سواء.
جلست على مكتبي ولعشر ساعات كاملة ظللت أكتب وأكتب، وقبيل المساء ذهبت إلى الناشر بخمسين صفحة كاملة من الهُراء.
تركتها له دون أن أتحدث، وانصرفت.
واستمر الوضع على نفس المنوال.
اكتب طوال الليل، وأنام نهارًا، وتركت عملي، وفي نهاية المهلة أصبحت أشبه المجاذيب، خسرت 10 كيلوجرامات من وزني، وقد كنت نحيفًا قبل أن أفقدهم، وأهملت شعري ولحيتي.
عندما أعطيت الناشر الجزء الأخير من الرواية، هنأني وطلب مني أن أستريح بعد كل هذا العناء.
وبعد شهر واحد امتلأت واجهات المكتبات بهذه الرواية، وأعطاني الناشر 10 نسخ من روايتي وأخبرني أنه ستواصل معي عندما تُوزع على المكتبات.
لشهر كامل لم يجد جديد، كنت أتصل به فيتجاهلني، أزوره فلا أجده وفي النهاية اتصل بي ليخبرني أن روايتي موجودة في ثلاث مكتبات.
شعرت بفرحة حقيقية، اغتسلت وحلقت لحيتي وهذبت شعري وتأنقت وذهبت لزيارة المكتبات لأرى تحفتي الفنية تزين رفوف المكتبات.
وصلت للمكتبة الأولى ووقفت أتطلع إلى الواجهة المضاءة. وجدت عشرات النسخ من الرواية التي كتبتها باسم الكاتب الكبير، وصدمت عندما وجدت الطبعة العاشرة مكتوبة بحروف كبيرة بجوار العنوان.
الطبعة العاشرة!
عشر طبعات في شهر واحد!
لم أجد أثر لروايتي في الواجهة فدلفت إلى الداخل، وبعد أن فحصت كل الرفوف بتأني لم أجد روايتي، فسألت البائع، الذي تردد قليلًا قبل أن يخبرني بوجودها ويشير إلى بمكانها.
في مكان منزوي وجدت ثلاثة نسخ من روايتي موضوعة بطريقة تجعل ملاحظتها مستحيلة.
سألته عن عدد النسخ المُباعة فأخبرني أنه لم يبع منها بعد.
الناشر أرسل لك ثلاث نسخ فقط!
نعم.
زيارتي للمكتبتين الأخريين لم تختلف كثيرًا، فقط وجدت في إحداهما رواية الكاتب وصلت للطبعة الحادية عشر.
ابتلعت مرارتي وقررت الانتظار لبعض الوقت، وبعد شهر أخر زرت المكتبات مجددًا لأجد روايتي على حالها، وعدد طبعات الرواية الأخرى وصلت لأرقام فلكية.
محملًا بالغضب اقتحمت مكتب الناشر بعنف ووجدته يجلس بهدوء خلف مكتبه الضخم.
سألته بحنق كيف أنه أرسل ثلاثة نسخ لثلاث مكتبات فقط من روايتي، فأخبرني بهدوء أن الأمر ليس بيده، الأمر يخضع للعرض والطلب، ولا أحد يريد روايتي ولولا علاقاته الطيبة بأصحاب المكتبات ما استطاع توزيع نسخة واحدة.
ثارت ثائرتي وأخذت أهدده وأتساءل كيف تصل الرواية السيئة لهذا العدد من الطبعات وروايتي لم تبع نسخة واحدة، وأنني سأخبر الجميع أنني من كتب هذه الرواية ولكنه أتهمني بالجنون وقال حرفيًا:
- ومن تظن نفسك أيها الأحمق؟ وهل شخص مثلك معدوم الموهبة قادر على كتابة رواية عظيمة مثل كاتبنا الراحل، رحمة الله عليه؟ لقد نشرت روايتك السيئة شفقةً عليك وإحسانًا وأنا أعلم جيدًا أنها رواية فاشلة مثلك تمامًا.
حطمت المكتب فوق رأسه.. أعترف بذلك، ولكني لم أتمالك نفسي من الغضب.
يمكنني أن أتقبل العقاب من أجل هذا، ولكنني لست مجنونًا.

ابتسم له الطبيب وغادر حاملًا الملف، وفي الخارج كتب كلمة واحدة في الملف قبل أن ينصرف.
"بارانويا"

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق