الخميس، 29 فبراير 2024

رواية على حافة الحياة "بين الحقيقة والوهم"

 


على حافة الحياة تبدأ رحلات وتنتهي أخرى
نهرول خلف مصيرنا المحدد سلفًا.. كالعميان نتخبط دون دليل يمكننا أن نثق به، ولا نستطيع التفرقة بين ما اخترناه لأنفسنا ومااختير لنا
هل الحياة هي رحلة عقاب؟!
هذه الرواية تتحدث عن الحياة.. عن الرحلة التي يجب أن نقطعها شئنا أم أبينا
نشارك يوسف في رحلة ندمه وأين تقوده طبيعته وأين سيتوقف به القطار
ونتعرف على يحيى ورحلته المتعثرة في البحث عن ذاته وعن معنى للحياة
ورحلة مايا.. الرحلة التي فُرضت عليها فرضًا فقط لكونها وجدت في ذلك المكان في تلك اللحظة
ورحلة عمرو.. بين الحقيقة والحلم والواقع والوهم
ما بين الاختيار المتعثر والقدر الواثق تسير الحياة، ويمر الزمن بلا مبالاة شاهدًا على ما يحدث بهدوء وحكمة اكتسبها من كثرة ما مر به
استعدوا.. فلتبدأ الرحلة

رابط التحميل

الأحد، 25 أبريل 2021

عندما عاندتني الكتابة



تؤرقني الرغبة في الكتابة، تحرقني من الداخل، والأمر مثير للسخرية؛ فلا أنا قادر على الكتابة ولا يمكنني التوقف.

تحتشد الكلمات داخلي، كلمات مجهولة في ركن بعيد من عقلي، ركن مظلم لا أستطيع تبينه، أشعر بوجودها مثل إحساس المرء بالهواء المحيط به، يشعر به ويعجز عن الإمساك به.

الفرق بين الكلمات الخفية والهواء المحيط بك أن الهواء ينعشك، بينما تخنقك الكلمات المتكدسة داخلك ولا تستطيع التخلص منها، وكيف تتخلص مما هو خفي!

طالما استخدمت شعوري بالكلمات الحبيسة في الكتابة، أجلس أمام الصفحة البيضاء وأدع الكلمات تنساب كيفما تشاء دون أن أعيقها بتفكيري، طالما نجح هذا سابقًا، ولكن يبدو أنني استنزفت هذه الطريقة حتى قطرتها الأخيرة، ولا بد من العثور على وسيلة جديدة لا زلت أبحث عنها وآمل أن أجدها في القريب. 

الأربعاء، 24 مارس 2021

خواطر غير مهمة

 
لا أستطيع التصويب بسلاح ناري في أحلامي، ولا يعني هذا أنني أستطيع فعل ذلك في يقظتي، فلم أجرب هذا قط.

كل ما هنالك، أنني في بعض الأحلام عندما تضطرني ظروف الحلم لحمل سلاح ناري للدفاع عن نفسي أو النجاة من خطر محقق.. لا أصيب أحدًا، مهما حاولت التصويب بدقة وتركيز.. لا شيء، الأمر أشبه بإطلاق النار من سلاح غير حقيقي.

في حلمي الأخير حدث نفس الشيء ولكي أتأكد من الأمر وضعت فوهة السلاح على زجاج جانبي لإحدى السيارات وأطلقت النار.. ولم يحدث شيء.

الغريب في الأمر أنني أستطيع التحكم في أحلامي بطريقة ما، أستطيع التلاعب بالأحداث.. معرفة ما سوف يحدث.. وحتى الطيران إذا ما أردت.

حتى السلاح الناري الذي أجده بحوزتي، يأتيني من الفراغ.. أحتاجه فأجده بين يدي.
لماذا إذن لا يعمل؟ هل للأمر علاقة برفضي للقتل؟

أستطيع إقناع عقلي بقدرتي على الطيران، ولكني لا أستطيع إقناعه بالقتل.. ربما يكون هذا منطقيًا؛ فأنا أرغب حقًا في الطيران وأرفض القتل.

السبت، 26 ديسمبر 2020

البحيرة السوداء


تحلق الرجال حول الكوخ نصف المتهدم وأخذ أحدهم يصيح بصوت جهوري محاولًا إقناع العجوز بالخروج قبل أن يهدموه فوق رأسه.

استمرت محاولات الإقناع لنصف الساعة دون أي رد من الداخل.. اقترح أحدهم اقتحام الباب عنوة فربما يكون الكوخ خاليًا، ويكون العجوز قد غادر بالفعل أو مات.

حاولوا بالفعل دفع الباب بالقوة ولكن الباب لم يتزحزح بينما ارتج الكوخ كله لقوة ضرباتهم وكأن الكوخ وحدة واحدة.

في الداخل جلس العجوز فوق مقعد خشبي صنعه بنفسه في زمان آخر ونظر لامباليًا صوب الباب الذي ثبته بألواح خشبية انتزعها بنفسه من سقف الكوخ، وحوله تناثرت قطع الأثاث البالية.

أشعل السيجارة الأخيرة التي يمتلكها وغرق في أفكاره متناسيًا الأصوات المزعجة المحيطة به.

بدأ في بناء هذا الكوخ وهو صبي يساعد أباه في الصيد، وظل يدخر أجره لشراء الخشب والمعدات الأخرى لثلاث سنوات قبل أن يتمكن من الانتهاء من بنائه.

في هذا الكوخ تزوج من الفتاة الوحيدة التي أحبها، وفيه ماتت وهي تضع مولودها الأول، ابنه الذي تركه ليعمل مع أعدائه، أصحاب المصانع القذرة.

عندما ظهر هؤلاء الأوغاد انقلبت حياته رأسًا على عقب، فقد عمله ثم فقد ابنه وها هو يفقد بيته الذي بناه بيده.

طوال حياته عمل في الصيد، صيد الأسماك، يخرج من كوخه إلى قاربه الصغير ويقضي يومه في البحيرة ويعود عصرًا بما رزقه الله به.. يبيع منه ما يكفيه لشراء لوازم البيت ويعود إلى كوخه ليأكل هو وابنه.

قبل أن يكبر الابن إلى السن الذي يمكّنه من مساعدته في الصيد، بدأ العمل في إنشاء المصنع الأول بجوار البحيرة.

وقتها تحدث الكثيرين عن أهمية هذا المصنع لقريتهم وكيف سيعود عليهم بالنفع، ولكن ما حدث هو العكس، بالنسبة له على الأقل، فما أن بدأ المصنع في العمل حتى قلت الأسماك ومع مرور الوقت وبناء المصنع الثاني لم تعد هناك أسماك، ورويدًا رويدًا تحولت مياه البحيرة إلى اللون الأسود بسبب المخلفات القذرة للمصانع، وماتت الأشجار المحيطة بالبحيرة قبل أن تقتلع واحدة تلو الأخرى.

حاول التحدث مع الجميع حول هذه المصانع وما جلبته من خراب ولكن الآوان كان قد فات، ففي كل بيت كان هناك من يعمل بواحد من هذه المصانع، وجاء الكثير من الأغراب للعمل بالمصانع ونشأت مباني قبيحة وأحياء أكثر قبحًا لتستوعب هؤلاء العمال.

رفض تمامًا فكرة العمل بمصنع، وجعل هذا من كسب قوت يومه أمرًا شاقًا، فمهنته الوحيدة هي صيد الأسماك، وظل يقوم بأي عمل كان طالما كان بعيدًا عن تلك المصانع.

الضربة الموجعة الأخرى كانت عندما اكتشف أن ابنه المراهق بدأ العمل في واحد من هذه المصانع، تعاركا كثيرًا وفي النهاية ترك الابن كوخه وانتقل إلى سكن العمال، وهو الأمر الذي لم يغفره له أبدًا.

خمسة عشر عامًا مرت منذ أن تركه ابنه، وها هم يريدون هدم الكوخ لينتهوا من بناء مصنع جديد، أو توسعة آخر قديم، لا يدري، ولكنه لن يغادر بيته أبدًا.. يفضل الموت.

وهذا ما فعله سد الباب والنوافذ بألواح خشبية وحول الكوخ إلى قبره الخاص، وها هو يجلس فوق مقعده الخشبي في انتظار اللحظة التي يتهدم الكوخ فوق رأسه.

أخذ النفس الأخير وألقى بالسيجارة بإهمال في إحدى الأركان وارتج الكوخ بقوة، وفجأة أنقض الكوخ فوقه وكأن يد عملاق تعتصره من الخارج.

عارضة خشبية شجت رأسه وانغرست خشبة مسننة بين أضلاعه، ومن بين أنفاسه المؤلمة تذكر ابنه لثانية قبل أن يأتيه وجه زوجته فابتسم وأسلم الروح.

عندما وجوا الجثة وسط الأنقاض اقترح أحدهم التخلص منها هربًا من أي مساءلة مستقبلية، وبالفعل ربطوا الجثة جيدًا بقطع حديدية من الأنقاض وألقوها في البحيرة السوداء لتصبح قبره بعد أن أمدته طويلًا بالحياة.

الأحد، 6 سبتمبر 2020

عن الألم.. والموت


 

لقد تألم كثيرًا، ولم يعد يتحمل أكثر.
ليلة أخرى تمر وكأنها حافلة تمر فوق جسده، ذلك الجسد الذي أوهنه المرض.
حاول النوم ولكن الألم القاسي تمكن منه وفشل في العثور على أي وضعية مريحة وفي النهاية قعد في محاولة للعثور على وضع أقل ألمًا.
وأخيرًا بدأ الألم ينحسر رويدًا وانتهت آلام جسده حين تركته الروح صاعدة إلى بارئها، ومالت رأسه بإهمال ناحية كتفه الأيمن من جسده الميت.
لم أره وهو يتألم فلم أكن حاضرًا في تلك اللحظات ولكني رأيت الجسد بعد أن غادرته الروح.
-----------
آلام لا تطاق تطبق على أنفاسها هي الطفلة.
أكثر من عامين قد مرا على غرقها في بحر الألم المضني وفشلت كل محاولات احتواءه، المحاولة تلو الآخرى، وها هو الألم يبلغ ذروته.
لا وضعية مريحة هناك، فقدتْ حتى القدرة على الكلام ولم تعد الشكوى متاحة أو الشرح ممكنًا.
فهما أنها تتألم وأنه لا وضع يمكنها أن تشعر فيه ولو بالقليل من الراحة، وأخذا في تغيير وضعها يبغيان وضعية أكثر راحة أو أقل ألمًا.
كنتُ هناك وحملتها قليلًا بين ذراعيّ حتى شعرتُ أن آلامها قد هدأتْ قليلًا، فوضعتُها مجددًا في الفراش.
بعدما غادرتُ أنا، انتهتْ آلام الجسد بالطريقة الوحيدة الممكنة، انتهتْ بمغادرة الروح.. ولكني لم أكن هناك.
لم أرّ الجسد الخالي من الحياة.. الجسد الواهن الذي افترسه المرض ونهشته الآلام.
-----------
داهمتني الآلام وعبثًا حاولت العثور على وضعية مريحة لأنام، وهنا تذكرت.
في مرة فاتتني رؤية الرجل وهو يصارع آلامه واكتفيت برؤية الجسد الميت، ومع الطفلة -في المرة الثانية- حضرت لحظات الآلام كلها وفاتني رؤية الجسد الخالي من الحياة.
هذه المرة سأكون حاضرًا حتى النهاية.. وأخذت في الانتظار.

الأربعاء، 15 أبريل 2020

كابوس



استيقظت فجأة واحتجت لثواني لأعي ما حولي.
الظلام كثيف، وصوت القطار العابر بعيدًا يبدو واضحًا، والزجاج يهتز مصدرًا صوتًا كئيبًا.
أغمضت عيني لأكمل النوم، ولكن -ورغمًا عني- بدأ عقلي يحلل المعلومات ليخرج بنتائج:
مادام الظلام مسيطرًا إذن لم أنم كفاية، ساعتين بحد أقصى، فقد عانيت أرقًا طويلًا قبل أن أتمكن من النوم.
وسبب استيقاظي قد يكون صوت القطار واهتزاز الزجاج، نعم من المفترض أنني اعتدت على هذا الصوت ولكني كلما كانت أعصابي ملتهبة، أو أعاني أرقًا فأقل صوت يضج مضجعي.
لم أستطع مواصلة إغماض عيني ففتحتهما وشعرت أن الغرفة الضيقة تكتم على أنفاسي. كثيرًا ما ينتابني هذا الإحساس.. أقوم من نومي بلا سبب جوهري وأحس أن غرفتي تحولت إلى قبر ضيق، لا متسع لأتحرك ولا هواء لأتنفس.
رأيت مرة هذا في حلم واضح: "أستيقظ في ظلام حالك والهواء شحيح.. أكاد أختنقأستند بيدي لأقوم فتنغرس في رمال.. أنتفض مرتاعًا فيصطدم رأسي بسقف قريب.. أتخبط بين الجدران الضيقة وأصرخ بلا صوت.. لقد دُفنت حيًا"
عندما استيقظت من هذا الكابوس أخذت أعب الهواء عبًا ولم تستطع غرفتي احتوائي فخرجت إلى الشوارع وأخذت أهيم على وجهي حتى علت الشمس وأخذ ظلامي الداخلي يخبو رويدًا.
من وقتها كلما استيقظت ليلًا وجاءني هذا الإحساس فررت من ضيق غرفتي إلى رحب الحقول.
ارتديت ملابسي وتسللت إلى الخارج حتى لا يشعر بي الجد.. في سكون الليل بدأت أتنفس الهواء الشحيح، والظلمة تكاد تبتلع عظامي.
سرت تقودني العادة نحو محطة القطار، واحد من أمكنتي المفضلة في القرية.
لثلاث سنوات ركبت القطار يوميًا للذهاب إلى المدرسة الثانوية في المركز.. أربع سنوات قضيتها في الجامعة بعيدًا في العاصمة.. أربع سنوات وأنا أقسم يوميًا أنني لن أعود أبدًا، وفي النهاية عدتُ.
هل كان يراقبني؟
هذا هو التفسير المنطقي الوحيد، في ذلك اليوم نجحت أخيرًا في الحصول على عمل.. عدت إلى غرفتي المؤجرة سعيدًا فوجدت الجد يجلس بانتظاري، مثل الموت يأتي بلا استئذان.
لا أستطيع مواجهته، لم أنجح يومًا في ذلك.
مهما كان غضبي، ورغمًا عن كرهي العميق له -صدقًا لا أكره أحدًا مثلما أكرهه- فإنني لا أستطيع حتى مخالفة أوامره.. نظرة واحدة من عينيه تخلع قلبي.
ولكني سأمت جبني الأزلي فاستجمعت شتات شجاعتي ونظرت إليه نظرة متحدية، فنظر إليَ ثواني ثم قام وتوجه إلى الباب وقبل أن يخرج ودون أن يلتفت نحوي قال:
- أعرف أين تعيش أمك.. لا تنسى ذلك. وغادر.
بعدها بساعة انطلق بنا القطار عائدين إلى القرية الملعونة، بجملة واحدة استطاع وأد تمردي اللحظي وجري خلفه لأعود تحت سيطرته المطلقة.. مجددًا.
***
هو الشيطان!
عندما مات أبي أخذني الجد من أمي لبيته وقريته، ويعلم الله ماذا فعل وكيف هدد أمي وأهلها حتى يبتعدوا عني بشكل نهائي.
كطفل في الرابعة من عمري لم أعِ ما حدث، وظننت لسنوات أن أمي ماتت مثل أبي وكلما ذهبت مع الجد إلى قبر أبي دعوت لأبي جهرًا.. ولأمي سرًا.
عشت طفولة بائسة بين جدي المتسلط وأعمامي وأولادهم الذين يكرهوني لسبب مجهول.
دأب الجد على الحط من شأني، وتعامل معي دائمًا كأن بي علة ما تجعلني دون البشر، وفي المدرسة الثانوية سمعت عنه حكايات تشبه الأساطير، وكيف أنه -وبالرغم من وجوده في قريتنا المنسية- يمتلك نفوذًا يجعله يتصرف في رقاب الناس كيفما شاء دون رقيب أو حسيب.
رأيته بنفسي مرارًا كيف يتعامل بعنف مع من يخالف أوامره، أو حتى يجرؤ على مناقشته.. في يوم حار من أيام شهر أغسطس سمعته صوته العالي، هرعت من غرفتي مراقبة ما يحدث متواريًا عن الأنظار، رأيته يصيح ويسب رجل عرفته من هيئته، واحد من صغار الملاك في قريتنا لا أعرف اسمه، حاول الرجل أن يبدي اعتراضًا فما كان من جدي إلا أن قام وهو يزبد وتناول عصا حديدية كانت بجواره وهوى بها فوق رأس الرجل فسقط دون كجوالٍ فارغ.
لم يكتف الجد بفعلته وأخذ يركله بقدمه في وجهه حتى اختفت ملامحه، ثم أمر عمي الأكبر بفعل ما ينبغي.
عرفت فيما بعد أن ما ينبغي هو حرق الجثة حتى تصبح رمادًا في محرقة صُنعت خصيصًا من أجل هذا، ويلقى بالرماد في مصرف القرية.
ومرت السنوات حتى نسيت كيف كانت تبدو أمي، حتى سمعت مصادفة أحد أبناء عمومتي يتباهى بسطوة جدي أمام واحد من أصدقائه وكيف أخذني من أمي وهددها لتبتعد عني حتى أنه أكره أهلها على ترك المركز حيث اعتادوا العيش وتركوا المحافظة كلها خوفًا من بطش الجد.
عشت مشوشًا لشهور لا أعرف حقيقة مشاعري، هل أغضب على هذه الأم التي تخلت عني وتركتني لهذه الحياة البائسة أم أشفق عليها؟
مرة تجرأت على الجد بعد أن صفعني لسبب تافه كعادته، وقلت إنني أريد الذهاب لأمي لأعيش معها، وما حدث بعدها لن أنساه أبدًا.
صفعني صفعة تبدو بجانبها الصفعة الأولى كهدهدة طفل رضيع.. صفعة ألقتني أرضًا بوجه متورم وفم يمتلئ دمًا، وقال:
- لن ترى أمك ما دمتُ حيًا.. لقد أقسمتُ على ذلك، وأقسم الآن أمامك أنك لو حاولت مجرد محاولة الخروج عن طاعتي، فسأقتلها شر قتلة.
وقد كان قادرًا على ذلك.. أعلم يقينًا أنه قادر على فعل ذلك.
من بعدها وأشعر طوال الوقت أنني أعيش فوق ألغام ستنفجر في أي لحظة.. أحصل على أقل القليل من الحياة شاعرًا بأنها منة وتنازلًا من الجد.
***
جلست في مكاني المفضل في المحطة المهجورة، وأخذت أراقب السماء السوداء التي بدأت تكتسب لونًا، والقضبان التي بدأت تظهر على استحياء.
كانت المحطة بلا إضاءة، ومكتب التذاكر مهجور منذ عامين لموت الموظف السابق، ولم تهتم الدولة بإرسال بديل حتى الآن، وربما لن تفعل.
يمر القطار التالي في السابعة صباحًا كما أعرف، يتوقف لدقيقة أو أقل ثم يستكمل مسيره.. أشعر أنه يومًا ما لن تتوقف قطارات هنا، سينسى العالم أمرنا.. هو لا يعرفنا من الأساس، ولكن الأمر وقتها سيكون رسميًا.. سنصبح بلا وجود بشكل رسمي.
زادتني الفكرة اكتئابًا فقمت ودرت دورة حول القرية أعادتني إلى البيت الكبير.. بيت الجد، بيت كبير وقبر لي أسكنه.
لمحت الجد عند البئر خلف البيت.. البئر الذي يبدأ منه الجد يومه، أخبرني يومًا ما أن جده هو من حفره ويحب أن يغتسل منه كل صباح، ومحرم على الجميع استخدام هذا البئر حتى نحافظ على مائه قدر المستطاع.
ساقتني قدمي نحوه دون إرادة مني، عندما اقتربت كان الجد ينحني موجهًا كشافه نحو عمق البئر ليرى منسوب المياه.. دمدم بسباب...
دفعته بقوة فهوى في البئر وسمعت اصطدام رأسه بقاع البئر وصرخته المكتومة.
ماذا فعلت؟!
العرق يغمرني.. لا أستطيع التنفس.
رؤيتي مشوهة وأشعر أنني أحلم.. واحد من كوابيسي التي لا تنتهي.. نفس المشاعر.. كما الحلم تتحرك أطرافي دون مشورتي.
هل قذفته حقًا؟
وجدتني أحدق في سقف غرفتي.. العرق يغمرني.. والصياح يرتفع في الأسفل، والنساء تولول.. لقد مات الجد.
زلت قدمه ووقع في البئر.. هكذا أخبروني.
بكاء ودفن.. عزاء وقرآن.. تناوش وعراك على الميراث.
لا أحد يعبأ بي.. لن يفتقدني أحد.
وقفت على المحطة أرتجف بالرغم من حرارة الجو.. قلبي يكاد يتوقف خوفًا ألا يتوقف القطار هذه المرة.. فقط هذه المرة توقف.. أتوسل إليك، فقط هذه المرة.
أرتقبه منذ الأزل.. لقد تأخر كثيرًا.. لن يأتي أبدًا.
وأخيرًا أسمع صافرته العالية.. يظهر القطار مسرعًا.. لن يتوقف.. دقات قلبي تطن في أذني أعلى من صوت القطار.. سيمر ويتركني.. لن أحتمل دقيقة أخرى هنا.
لن أفوت هذا القطار مهما حدث، إما أن يتوقف فأستقله، أو لا يتوقف فأموت تحته.
وتوقف القطار أمامي، وقدمي فقدت القدرة على الحركة.. يدي تتخشب على مقبض حقيبتي، والثواني تمر.. صفير آخر ويتحرك القطار وقبل أن تزداد سرعته تعود إليَ الحياة وأقفز داخله وأسقط على الأرضية وأستمع إلى صوته فوق القضبان وهو يبتعد ويبتعد عن القرية الملعونة والضوء يتسع ويبتلع كل شيء.