الأحد، 8 يناير 2017

ظلم وظلام




في اللحظة الأولى شعر أن الموت قد جاءه أخيراً ليريحه مما يعاني، وبعد لحظات عرف أنه الضياع وأن الموت لن يأتي في القريب وستستمر حياته رغماً عنه ليقاسي آلامه الجسدية والنفسية لحظة بعد لحظة.
في البداية ظن أنه لن يحتمل طويلاً ومع مرور الوقت عرف أنه سيعتاد على الأمر وهذه مشكلة كونه إنساناً عادياً، فالإنسان يمكنه أن يعتاد أي شيء مهما كان كريهاً.
حقاً هو لا يريد الاعتياد على هذا الوضع فالاعتياد يعني التكيف مع هذا الواقع المقيت والكريه، والتكيف يعني المزيد من الحياة.. الحياة في هذا القبر.
هل يمكن اعتبار هذه حياة؟
للأسف هي كذلك، فما دام الألم والاكتئاب موجودان، إذن فهي حياة شاء أم آبى.
ربما هو ميت بالنسبة إلى الأخرين، وهو يحسدهم على ذلك، ولكنه حياً وربما يكون أكثر حياةً من أغلبهم ما ظل عقله يعمل، ومهما بذل من جهد لن يستطيع إيقاف عقله عن العمل، ففي وضع مثل وضعه، العقل هو العضو الوحيد في جسده الذي يمكنه العمل بحرية، تلك الحرية التي فقدها.. غالباً إلى الأبد.
هل سينسونه؟
بالتأكيد سيفعلون. الزمن كفيل بذلك.
وعلى أي حال هو لم يترك خلفه الكثير مما يمكن تذكره به، وحتى من كان يشعر نحوه بعاطفة، قوية كانت أم ضعيفة، ستضمحل ذكرياته عنه مع مرور الزمن حتى ينساه كلية في النهاية.
الزمان:
لم يعد يعرف حقاً أي شيء عنه.
مرت شهور أو سنين ربما، من المستحيل أن يعرف ولو بشكل تقديري.
المكان:
قبر ينتحل صفة زنزانة عرضها متر وطولها متر ونصف وارتفاعها مجهول فالظلام تام. وكل ما يعرفه أنها تزيد عن طوله بأكثر من متر لأنه لم يصل إلى السقف عندما قفز إلى الأعلى.
فكر في أنه بإمكانه أن يصعد إلى الأعلى باستخدام يديه وقدميه، يد وقدم على حائط واليد والقدم الأخريين على الحائط المقابل ولكنه لم يكن يملك من الطاقة ما يخوله فعل ذلك فنسي الأمر.
لم يكن باستطاعتها التمدد فارداً جسده كله فطوله يزيد عن طول الزنزانة بثلاثين سنتيمتر، لذا فقد كان يجب عليه الوقوف ليفرد جسده.
في البداية كان يقف طويلاً ويظل يجوب الزنزانة الضيقة لساعات ومع مرور الوقت أصبح توقفه نادراً، وكان يقضي معظم وقته جالساً أو ممداً على إحدى جانبيه متقوقعاً حول نفسه لتتمكن الزنزانة من احتواءه.
الصوت الوحيد الذي كان يسمعه هو صوت الارتطام المعدني للطعام والماء الذين يتم وضعهما من فتحة في أسفل الباب المعدني للزنزانة.
لم يتمكن من معرفة نوع الطعام الذي يُقدم له، ومع مرور الوقت لم يعد يهتم.
لم يتمكن أيضاً من معرفة الوقت بين الوجبة والوجبة التي تليها، في البداية حاول معرفة ذلك ولكنه لم يتمكن من تحديد الوقت ولو بشكل تقديري.
في البداية كان الجوع والعطش يلتهمانه التهاماً قبل أن تأتيه الوجبة التالية، وبعد أن اعتاد أصبح يأكل بآلية عندما يأتي الطعام.
لم يعد يشعر بالجوع إذا تأخر الطعام، ولا يشعر بالشبع بعد الانتهاء من الطعام.
فقط يأكل كسراً للروتين.
وكان يعتقد وإن لم يكن متأكداً أن تلك الوجبة تأتيه مرة واحدة في اليوم، وكانت طريقة جيدة ليتمكن من حساب الوقت ولكنه بعد أن أحصى إحدى وثمانون وجبة فقد اهتمامه باحتساب الوقت ولم يعد يبالي.
الظلام والوحدة مزيج قاتل.
والتفكير..
عندما لا تملك شيئاً لفعله سوى التفكير، يصبح التفكير سلاحاً فتاكاً موجهاً نحو نفسك.
منذ البداية عرف أنه سيفقد عقله آجلاً أم عاجلاً.
مادام سيعتاد على هذا الوضع وسيتكيف ليعيش فسيفتك التفكير به وسيتحول إلى مخبول.
أسوأ ما في الأمر أنه لن يعرف أبداً أنه قد جن.
لن يعرف هل جن أم أنه لا يزال متمسكاً بقواه العقلية.
ولكن هذا لا يهمه كثيراً، فهو على يقين أنه لن يغادر هذا المكان حياً، ولا يوجد فرق بين أن يقضي لحظاته الأخيرة عاقلاً أم مخبولاً.
ربما كان من الأفضل أن يفقد عقله، فوقتها لن يكون واعياً لمأساته.
-----------
ويمر الوقت..
- هل تشعر بالندم؟
- على ماذا؟
- لانتهاء حياتك في هذا القبر.
- وهل فعلت ما يستوجب الندم! أنت تعرف أن سبب وجودي هنا لا يدعو للندم، لم أقترف جرماً بل ربما العكس هو الصحيح.
لا أشعر بالندم على شيء فعلته، ربما أشعر بالندم على أشياء لم أفعلها، وكان يجب عليَ فعلها.
- أرى أنك لازلت تمتلئ غروراً.
- أرى أنك لازت تمتلئ حماقة.
-----------
الوقت يمر..
- أهلاً، لم تزورني منذ فترة.
- رائحتك كريهة.
- أنت تعرف السبب.
- أعرف، ولكن معرفة السبب لا تنفي الحقيقة، والحقيقة أن رائحتك كريهة.
- أنت تدفعني لسبك في كل مرة.
- يمكنك أن تسبني كما تشاء. كلماتك لا يمكنها أن تشعرني بالإهانة. كما أنني أرأف بحالك.
- هي الشفقة إذن ما تدفعك لزيارتي.
- ليست الشفقة وحدها، ولكن لا بأس بذلك يمكنك اعتبار أن هذا هو السبب الأهم.
- هل فقدت عقلي؟
- لا ليس بعد، ولكنك في طريقك إلى ذلك في القريب.
- هل سأتمكن من معرفة ذلك؟
- لا أعرف حقاً.
- وهل يعني فقداني لعقلي أن أفقدك أنت أيضاً.
- ربما. لا يحدث هذا دائماً على أي حال. في بعض الأوقات يحدث العكس، عندما تفقد عقلك تكون السيطرة لي أنا.
- أظن أنني فقدت عقلي بالفعل، والدليل هو أنني أتحدث إلى نفسي الآن.
- التحدث إلى النفس لا يعني الجنون دائماً.
- لا أصدقك.
- كما تشاء.
-----------
المزيد من الوقت..
- لا تبدو على ما يرام.
- أنا كذلك بالفعل.
- لقد توقفت عن المقاومة.
- وماذا يمكن للمقاومة أن تفعل؟
- المقاومة هي من تبقيك حياً.
- وهل هذه الحياة تستحق التمسك بها؟
- بالتأكيد. تمسك بالحياة وربما يتم انقاذك في النهاية.
- أرى أنك بدأت تهذي.
- أنت من تهذي على أي حال.
.......
- لقد كنت تفكر كثيراً في الانتقام. والانتقام يجلب الكراهية، والكراهية تدمر العقل.
- وهل أملك التسامح في حالتي هذه؟
- أظن أنك لا تملك غيره.
-----------
- لماذا لم تعد تتقبل زيارتي لك.
- اذهب.
- لماذا؟
- لا تأتيني مجدداً، لم أعد أريدك بعد الآن.
-----------
- أخيراً جئتني أنت.
- لا أفهم. ألم أخبرك ألا تأتيني مجدداً.
- لم آتيك، أنت من جئت.
- وكيف هذا؟
- لقد فقدت وعيك.
- أشعر بالظمأ.
- هذا طبيعي، لم تشرب من ثلاثة أيام.
- وكيف تعرف هذا؟
- أعرف أكثر مما تظن.
- أشعر بالظمأ. لماذا يبدو صوتك أكثر وضوحاً.
- كما قلت لك، أنت الآن فاقد لوعيك. أنت الآن في عالمي أنا.
- هل مت؟
- ليس بعد ولكنك ستموت قريباً.
- أشعر بالظمأ.
- لم يأتك الحارس بالماء والطعام منذ ثلاثة أيام.
- لقد ظللت أطرق الباب برأسي لفترة طويلة، ولم يعد لدي المزيد من القوة.
- أعرف هذا.
- كيف عرفت أن ثلاثة أيام قد مرت؟
- أملك ما لا تملكه.
- وما هو؟
- أملك ساعة؟
- عن أي ساعة تتحدث؟ ما هذا الهراء؟
- أنت تعرف أنه ليس هراءً.
- إذن كم عام مر عليَ هنا؟
- لم يمر عليك عام حتى.
- أنت تهذي.
- حقاً. لم يمر عليك عام حتى.
- كم مر إذن؟
- إحدى عشر شهراً.
- فقط! أشعر أن سنوات عديدة قد مرت عليَ هنا.
- هذا أمر طبيعي.
- هل سأموت؟
- نعم. يبدو أنهم قد نسوا أمرك.
- حسناً إذن. وداعاً.
- وداعاً. أنا أرحل الآن بالفعل.
-----------
وغمر الضوء المكان.