السبت، 26 ديسمبر 2020

البحيرة السوداء


تحلق الرجال حول الكوخ نصف المتهدم وأخذ أحدهم يصيح بصوت جهوري محاولًا إقناع العجوز بالخروج قبل أن يهدموه فوق رأسه.

استمرت محاولات الإقناع لنصف الساعة دون أي رد من الداخل.. اقترح أحدهم اقتحام الباب عنوة فربما يكون الكوخ خاليًا، ويكون العجوز قد غادر بالفعل أو مات.

حاولوا بالفعل دفع الباب بالقوة ولكن الباب لم يتزحزح بينما ارتج الكوخ كله لقوة ضرباتهم وكأن الكوخ وحدة واحدة.

في الداخل جلس العجوز فوق مقعد خشبي صنعه بنفسه في زمان آخر ونظر لامباليًا صوب الباب الذي ثبته بألواح خشبية انتزعها بنفسه من سقف الكوخ، وحوله تناثرت قطع الأثاث البالية.

أشعل السيجارة الأخيرة التي يمتلكها وغرق في أفكاره متناسيًا الأصوات المزعجة المحيطة به.

بدأ في بناء هذا الكوخ وهو صبي يساعد أباه في الصيد، وظل يدخر أجره لشراء الخشب والمعدات الأخرى لثلاث سنوات قبل أن يتمكن من الانتهاء من بنائه.

في هذا الكوخ تزوج من الفتاة الوحيدة التي أحبها، وفيه ماتت وهي تضع مولودها الأول، ابنه الذي تركه ليعمل مع أعدائه، أصحاب المصانع القذرة.

عندما ظهر هؤلاء الأوغاد انقلبت حياته رأسًا على عقب، فقد عمله ثم فقد ابنه وها هو يفقد بيته الذي بناه بيده.

طوال حياته عمل في الصيد، صيد الأسماك، يخرج من كوخه إلى قاربه الصغير ويقضي يومه في البحيرة ويعود عصرًا بما رزقه الله به.. يبيع منه ما يكفيه لشراء لوازم البيت ويعود إلى كوخه ليأكل هو وابنه.

قبل أن يكبر الابن إلى السن الذي يمكّنه من مساعدته في الصيد، بدأ العمل في إنشاء المصنع الأول بجوار البحيرة.

وقتها تحدث الكثيرين عن أهمية هذا المصنع لقريتهم وكيف سيعود عليهم بالنفع، ولكن ما حدث هو العكس، بالنسبة له على الأقل، فما أن بدأ المصنع في العمل حتى قلت الأسماك ومع مرور الوقت وبناء المصنع الثاني لم تعد هناك أسماك، ورويدًا رويدًا تحولت مياه البحيرة إلى اللون الأسود بسبب المخلفات القذرة للمصانع، وماتت الأشجار المحيطة بالبحيرة قبل أن تقتلع واحدة تلو الأخرى.

حاول التحدث مع الجميع حول هذه المصانع وما جلبته من خراب ولكن الآوان كان قد فات، ففي كل بيت كان هناك من يعمل بواحد من هذه المصانع، وجاء الكثير من الأغراب للعمل بالمصانع ونشأت مباني قبيحة وأحياء أكثر قبحًا لتستوعب هؤلاء العمال.

رفض تمامًا فكرة العمل بمصنع، وجعل هذا من كسب قوت يومه أمرًا شاقًا، فمهنته الوحيدة هي صيد الأسماك، وظل يقوم بأي عمل كان طالما كان بعيدًا عن تلك المصانع.

الضربة الموجعة الأخرى كانت عندما اكتشف أن ابنه المراهق بدأ العمل في واحد من هذه المصانع، تعاركا كثيرًا وفي النهاية ترك الابن كوخه وانتقل إلى سكن العمال، وهو الأمر الذي لم يغفره له أبدًا.

خمسة عشر عامًا مرت منذ أن تركه ابنه، وها هم يريدون هدم الكوخ لينتهوا من بناء مصنع جديد، أو توسعة آخر قديم، لا يدري، ولكنه لن يغادر بيته أبدًا.. يفضل الموت.

وهذا ما فعله سد الباب والنوافذ بألواح خشبية وحول الكوخ إلى قبره الخاص، وها هو يجلس فوق مقعده الخشبي في انتظار اللحظة التي يتهدم الكوخ فوق رأسه.

أخذ النفس الأخير وألقى بالسيجارة بإهمال في إحدى الأركان وارتج الكوخ بقوة، وفجأة أنقض الكوخ فوقه وكأن يد عملاق تعتصره من الخارج.

عارضة خشبية شجت رأسه وانغرست خشبة مسننة بين أضلاعه، ومن بين أنفاسه المؤلمة تذكر ابنه لثانية قبل أن يأتيه وجه زوجته فابتسم وأسلم الروح.

عندما وجوا الجثة وسط الأنقاض اقترح أحدهم التخلص منها هربًا من أي مساءلة مستقبلية، وبالفعل ربطوا الجثة جيدًا بقطع حديدية من الأنقاض وألقوها في البحيرة السوداء لتصبح قبره بعد أن أمدته طويلًا بالحياة.