الأربعاء، 7 يونيو 2017

جناح الفراشة


(1)

ثلاثة أشهر دون كتابة. ما أصعب هذا!

وذلك بالرغم من أنه لم يكن يكتسب من الكتابة، وطوال الخمس سنوات التي اتخذ فيها من الكتابة مهنة، لم يجني من ورائها قرشاً واحداً.

منذ البداية، كان قراره ألا يعتمد على الكتابة كمصدر للرزق، ولم يتحول إلى الكتابة إلا بعدما أصبح لديه مشروعاً يدر عليه دخلاً ثابتاً يكفيه لعيش حياة كريمة.

كانت الأسباب التي بنى رأيه عليها، تبدو له منطقية تماماً وإن كانت لا تخلو من نرجسية وغرور.

كان يرى أن الكاتب الذي يريد الاعتماد على الكتابة كمصدر للرزق، عليه أن يقدم الكثير من التنازلات من أجل أن ينال استحسان أكثر عدد ممكن من القراء، وستتحول كتابته مع مرور الوقت إلى كتابة تجارية خالية من الدسم، هذا إنْ كان لديه دسم من الأساس.

لذا فقد كان يعتبر نفسه كاتباً جيداً، ويرى أنه ربما يصبح واحداً من أعظم الكتاب في المستقبل، وهذا غرور لا شك فيه.

من المحرج دائماً لكاتب أن يتحدث عن كاتب آخر، ولكن بما أن هذا الكاتب هو بطل قصتي فلابد من توضيح كل ما يتعلق به.

من وجهة نظري أرى أنه كاتب لا بأس به، يمتلك موهبة واضحة، وله بعض الأفكار الأصيلة، ولكن هذا هو كل شيء.

وهذا لن يكفيه بالتأكيد ليصبح كاتباً عظيماً كما يتوقع.

فلنترك هذا الأمر للزمن. ربما يتطور ويجد ضالته ويصل إلى ما يصبو إليه، وربما يظل كما هو. هذا ما سوف يجيب عنه الزمن وحده.

نعود إلى بطلنا وقد جلس أمام شاشة حاسوبه يتطلع إلى الصفحة البيضاء المثيرة للحماس إنْ كان لديك ما تكتبه، والمثيرة للاكتئاب إذا كنت عاجزاً عن كتابة حرف واحد.

كل يوم، يجلس أمام شاشة الحاسوب يتطلع بشرود إلى الشاشة البيضاء، واضعاً يديه على لوحة المفاتيح، أملاً في بعثرة الكثير من الحروف مكوناً كلمات تعبر عن بعض الأفكار.

كل يوم ولمدة تسعين يوم، ولم يكتب حرفاً واحداً.

يعطي لهذا الأمر ساعة كاملة، وبعد أن يفشل يقوم بفتح الفيس بوك، ويظل يتفقد المنشورات بتركيز غير حقيقي، حتى تدمع عيناه من الألم، فيغلق الحاسوب ويقوم.

أكثر من مرة حاول التشاغل بفعل أي شيء حتى ينجو بنفسه من جلسة التعذيب اليومية التي لا يجني شيئاً من ورائها، ولكنه في النهاية يجد نفسه مشدوداً بقوة غير مرئية ليجلس نفس الجلسة ويحصل على نفس النتيجة.
لا شيء.

في تلك الليلة قرر بإصرار ألا يحاول، وحتى لا يتراجع ارتدى ملابسه وخرج عازماً ألا يعود إلا لينام.

أخذ يتجول في الشوارع الخالية نظراً لتأخر الوقت، ثم جلس على المقهى الأثير لديه، الذي لا يغلق أبوابه أبداً.

مع الرشفة الثالثة من فنجان القهوة جاءته الفكرة، فأنهى قهوته سريعاً، وهرول إلى مسكنه قبل أن تفر منه.

كان الطريق من القهوة إلى منزله لا يزيد عن خمس عشرة دقيقة، ويمكنه اختصار خمس دقائق إذا أراد، وذلك باجتياز ممر ضيق لا يزيد عرضه عن المتر ويمتد لمسافة تقترب من الثلاثين متراً.

كان نادراً ما يجتاز هذا الممر، بالرغم مما يوفره له من وقت ومسافة، ولكنه كان يشعر بالاختناق والدوار كلما مر به ولذلك كان يفضل عليه السير حتى آخر الشارع ويدخل الشارع الذي يقطنه من بدايته.

وقف أمام الممر متردداً لثانية أو اثنتين ثم قرر السير فيه.

أخذ يسير بأقصى سرعة ممكنة باعداً ذراعيه بحيث تلامس كل ذراع إحدى المبنيين وكأنه يخشى أن ينطبقا عليه، ولكنه في الحقيقة كان يفعل هذا ليتوازن، وذلك لأنه إذا لم يفعل ذلك يجد نفسه يتخبط بين المبنيين مثل السكران.

في المرات القليلة التي عبر فيها هذا الممر كان يشخص ببصره نحو نهايته وكأنه غريق ينظر إلى طوق نجاته.

وما أن اجتازه حتى اندفع بجسده اندفاعة أخيرة جعلته في منتصف الشارع.
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - 
(2)

كان يومه الأول كفتى توصيل.

أخيراً تمكن من شراء دراجة نارية بعد معاناة، والتنقل من عمل لآخر.

استلم الدراجة من المعرض في وقتٍ متأخر، وإنْ لم يمنعه ذلك من الذهاب إلى المقهى ليحتفل مع أصدقاءه، وبعد عدة ساعات قرر العودة إلى مسكنه.

لم يكن متمكناً من القيادة نظراً لأنه بالكاد تعلم القيادة، ولكنه لم يشغل باله بالأمر، فالممارسة ستعلمه جيداً بكل تأكيد.

في طريق عودته، وبالرغم من تأخر الوقت عرج إلى الصيدلية القريبة من مسكنه، والتي كانت بحاجة إلى فتى توصيل، ليتفق معهم على العمل من اليوم التالي.

رحب به المسئول عن الصيدلية، وقد كان دائماً ما يرحب بفتى توصيل جديد، فهم لا يكلفونه قرشاً، ويعتمدون اعتماداً كاملاً على ما يتركه لهم العملاء من بقشيش.

قبل أن ينصرف طلب منه أن يقوم بأول مهمة له، فهناك عميل يحتاج إلى دواء وفتى التوصيل الآخر في مهمة أخرى وسيتأخر.

رحب الفتى بالمهمة، خاصة أن العنوان كان قريباً جداً من مسكنه وبالتالي لن يكلفه شيئاً.

أخذ الدواء وبدأ رحلته.

كما قلت في السابق لم يكن متمكناً من القيادة ولذا فقد كان يواجه مشكلة توازن يتحايل عليها بالتسارع قدر استطاعته.

أطلق العنان لسرعة الدراجة خاصة أن الوقت متأخر والشوارع خالية تماماً من المارة.

وفجأة برز هذا الرجل أمامه وكأن الأرض انشقت عنه.

وكان الاصطدام حتمياً.