الاثنين، 17 يوليو 2017

العبث



1- التعرف على المكان


دوار ورؤية مشوشة..
أُغمض عيني، أتكأ بذراعيّ على ركبتيّ.. لا فائدة..
أركع على الأرض على ركبتيّ وكفيّ، وأتقيأ.
وبالرغم من المرارة في حلقي، أشعر أنني أفضل حالًا.
أعتدل بهدوء محاولًا تفادي القيء، وأنظر حولي لأستكشف المكان.
المكان يبدو مألوفًا، ولكن شعور غريب داخلي يُنبئني أنني لم أزره من قبل.
هل شاهدت صورة له؟
لا.. لا. أشعر أنني أراه للمرة الأولى.. ولكني أعرفه، أنا واثق من هذا.
أشعر أنني بخير الآن، ولكن الرؤية لا تزال ضبابية، ليست ضبابية بالمعنى المعروف ولكن ثمة خطب ما، لا أستطيع وصفه أو التعبير عنه بالكلمات ولا حتى بالأفكار.. ولكني سأحاول.
يبدو المكان غير حقيقي وكأنه رسم بفرشاة رسام فاشل.. منقوص.. ألوانه باهتة.
نظرت إلى نفسي فوجدتني في صورتي الطبيعية!
أخذت أنقل بصري بيني وبين المكان لأتأكد من الأمر، بالفعل لا عيب في رؤيتي، فها أنا أرى نفسي بصورة ممتازة، المشكلة إذن في هذا المكان.
بدأت السير والأمر يزداد غرابة.
الأشياء حولي منقوصة مشوهة.. باهتة الألوان أو بلا ألوان.. يتجاور الظل مع الضوء في تحدي سافر لقوانين الفيزياء.
وفجأة، ومع استدارة مني وجدتني محاطًا بالمسوخ.
نعم مسوخ!
سيل من البشر بلا ملامح، يرتدون ملابس شاحبة، حتى أنني لا أستطيع تبينها.
هلعت وكدت أهرب فزعًا، ولكنهم لم يعبئوا بي ومروا حولي بلا مبالاة.
عبرت ما يشبه الطريق إلى الجانب الأخر ومنه دلفت إلى ما بدا لي كشارع ميزته الوحيدة أن عدد المسوخ به أقل.
أخذت أسير بحذر محاولًا تفادي المسوخ قدر المستطاع، ولكن خوفي قل كثيرًا بعدما تأكدت أنهم لا يبالون بي.
سرت حتى هدني التعب والوضع كما هو، الأشياء كلها غير واضحة المعالم، أعرفها بالتخمين: هذا يبدو بيتًا، وهذا يبدو متجرًا، وفجأة وعلى غير العادة وجدت مقهى واضحًا وسط هذا العالم المطموس.
وقفتُ أتطلع إلى المقهى بانبهار.. شيء يبدو حقيقيًا وواضحًا وسط هذه الخرائب السريالية، وبلا تردد توجهت إليه وجلست على أول مقعد شاغر.
نظرة سريعة حولي فتبين لي أن كل من حولي مسوخ، جاءني مسخ آخر وسألني ببساطة عن طلبي، فطلبت كوبًا من القهوة وأنا أشعر بالغرابة، ولكن من يدري ربما يتحسن الوضع بعد تناول القهوة.
وأنا أتناول القهوة بدا لي المقهى مألوفًا. مألوفًا بالرغم من ثقتي أنني أراه للمرة الأولى.
تباً! ما يحدث لي.
أنهيتُ القهوة التي كانت بلا طعم وكدت أقوم، ثم تذكرت أنني لم أتفقد جيوبي لأعرف هل أمتلك نقودًا أم لا، وقبل أن أفعل لمحته قادمًا من بعيد.
أخيرًا.. وجه طبيعي لإنسان طبيعي وسط غابة المسوخ هذه. ربما يمكنني أن أجد لديه بعض الإجابات.
توجه نحو المقهى بتلقائية بخطوات واثقة حفظت الطريق.. عبر أمامي ولم يعرني اهتمامًا هو الآخر وجلس صامتًا، وما هي لحظات حتى جاءه المسخ بطلبه.
هو معروف هنا إذن.
أخذت أتفحص وجهه بتمعن، هو الأخر يبدو لي مألوفًا.
بذلت قصارى جهدي لأتذكر أين رأيته من قبل ولكني كلما فكرت أكثر ازددت ثقة من أنني لم أره قبلًا.
أغمضت عيني وأخذت أحاول استحضار صورته في عقلي ولكني فشلت وبدلًا من ذلك أخذت أصفه داخل رأسي وهنا عرفت لماذا يبدو مألوفًا، ولماذا يبدو المقهى مألوفًا هو الآخر.
ولكن هذا مستحيل.
بالتأكيد أنا أحلم.. أو جننت.
- - - - - - - - - - -









2- الغرق في الأحداث
شيء من اثنين: إنني أحلم أو أنني فقدتُ عقلي.
ولكن كيف يمكنني التأكد؟
كل ما يحيط بي من أماكن مشوهة ومسوخ يرجح أنني غارق حتى أذني في كابوس، ولكن الأشياء الواضحة تنبأني أنني قد فقدت عقلي، خاصة بعدما تعرفت على الشاب الذي يجلس في الجوار والتعاسة بادية على ملامحه.
نعم تعرفت عليه، وليس هذا فقط، بل أعلم أيضًا أسباب تعاسته بالتفصيل، فأنا من كتبت كل هذا.
نعم، أنا كاتب وما حولي يخبرني بوضوح أنني الآن داخل روايتي الأخيرة، محاطًا بالشخصيات التي خلقتها من خيالي في المكان التي تدور به الأحداث.
ولكن لماذا تبدو معظم الأشياء مشوهة، ولماذا يبدو البشر كمسوخ.
وهنا توصلت لما يشبه الإجابة.
ربما يكون السبب هو أنا.
نعم أنا المسؤول عن هذا، فأنا من لم يهتم برسم المكان بالكلمات كما يجب، وبالطبع لم أهتم بوصف الأشخاص الهامشيين الذين لا علاقة لهم بأحداث الرواية.
فهمت الآن لماذا كانت القهوة بلا مذاق، فلم أهتم بوصف مذاق القهوة، ومن يستطيع وصف سحر القهوة بالكلمات الصماء.
مشوشًا ظللت جالسًا لا أعرف ما عليّ فعله الآن.
إذا كان هذا صحيحًا، وأنا الآن داخل روايتي فأنا أعرف جيدًا ما سيحدث، نحن الآن في منتصف القصة تقريبًا.
إذا كانت ذاكرتي جيدة فهذا الشاب سيمكث لساعةٍ أُخرى غارقًا في أفكاره، ويقوم بعدها ليقابل حبيبته التي ستخبره أن علاقتهما يجب أن تنتهي، ولن يعود بمقدورهما اللقاء مجددًا.
الشاب التعس الذي لا يعرف هذا -وإن كان لديه شعور سيء حول هذا اللقاء- طُرِدَ من عمله منذ ساعات، هذا العمل الذي كان يعتبره الفرصة الأخيرة للاحتفاظ بحبه الوحيد.
فقيرًا هو يكاد يكون معدمًا، بينما تنحدر فتاته من أسرة ميسورة الحال، وتلك الفتاة هي بطلة روايتي الحقيقية بينما لا يزيد هو عن كونه مجرد محطة عابرة في حياتها.
أعرف فيما يفكر الآن، هو يفكر هل يخبرها بخيبته الأخيرة أم يخفي الأمر عنها عله يتمكن من الحصول على عمل أخر في وقت قريب.
الأحمق لا يعرف أن الفتاة قررت تركه بصورة نهائية، وستسافر مع أسرتها للاستقرار بالخارج بشكل نهائي.
نعم هو لا يعرف أي شيء عن المستقبل الذي ينتظره، لا أحد يعرف سواي.
لا يعرف اليأس والاكتئاب اللذان سيعيش تحت وطأتهما.
لا يعلم أنه بعد ساعات سيقف أمام النهر مفكرًا في الانتحار ولأنه جبان لن يفعل.
لا يعلم أنه سيصبح مجرم.. وقاتل.
تباً! هذا الشخص الحزين المسالم الذي لا يفصلني عنه سوى أمتار معدودة سيتحول إلى سفاح.
انتابني غضب قوي عندما تذكرت الجرائم القذرة التي سيرتكبها هذا الشاب، حتى أنني فكرت أن أقوم من مكاني وأتوجه إليه وأعاقبه بعنف.
ولكني عاقبته بشكل جيد فيما سيأتي من أحداث، صدقًا لقد تفننت في عقابه وجعلته يتألم بقسوة قبل أن يموت ككلب أجرب.
أفقت من تفكيري عندما قام الشاب من مكانه.
عبثت بجيوبي فوجدت مالًا، دفعت منه حسابي بسرعة وهرعت خلفه، وأخذت أتابعه من مسافة آمنة.
- - - - - - - - - - -










3- العبث
سيسير لمسافةٍ طويلة، فجيوبه خاوية كبيتٍ مهجور، وعليّ الآن أن أسير كل هذه المسافة إنْ كنتُ أريد متابعة ما سيحدث.
وبالرغم من أنني أعرف جيدًا ما سيحدث، فإنني لم أستطع المقاومة، مقاومة مشاهدة ما كتبته يحدث أمام ناظريّ، وسرت خلفه أجر أقدامي.
يا له من أمر عجيب! كيف أشعر بالتعب في هذا العالم الخيالي.
أنا من صنعت هذا العالم ولا يمكن أن تنطبق عليّ قواعده.
يمكنني أن أفعل ما يحلو لي، وربما يمكنني الطيران كذلك.
فلأجرب.
ولدهشتي وجدتني أطفو في الهواء وكأني بلا وزن.
هذا جميل، ولكن ما دمت قادرًا على تخطي الجاذبية وما دمت القواعد لا تنطبق عليا هنا، هل يمكنني كذلك تخطي الزمان والمكان.
لم أفكر كثيرًا في الأمر، فقط أردت أن أكون في مكان اللقاء وزمانه فوجدتني هناك، والحبيبان يجلسان متجاوران، الشاب ينظر إليها بحزن بينما تنظر هي أمامها كي تخفي عيناها الدامعتان، وحتى لا تتأثر بنظرته المتوسلة.
لن يثنيها شيء عن قرارها، لقد فكرتْ مليًا في الأمر، فيما بعد ستشعر ببعض الحزن كلما تذكرت هذا الموقف وكيف قامت مسرعة وغادرت دون أن تنظر خلفها.
بينما سيبقي هو مكانه لساعات يبكي دون دموع، وأخيرًا سيقوم ليمشي بلا هدف حتى يجد نفسه وحيدًا يطل على المياه السوداء للنهر ويفكر في الانتحار ثم يتراجع.
يعيش لأيام تحت وطأة اليأس والاكتئاب -لأيام فقط- فالاكتئاب ترف لا يملكه من لا يملك قوت يومه.
لماذا أشغل رأسي بأمر هذا الشاب فدوره في الرواية ثانوي.
سريعًا أنتقل إلى وقت ومكان جريمته الأخيرة، الأكثر بشاعة.
تبًا لقد وصفتها بدقة تثير التقزز.
حقًا أنا من كتبت ما يحدث أمام عينيّ، ولكن الوقوف مكتوف الأيدي ومشاهدة بشاعة ما يحدث أصابتني بالتقزز والغضب.
تملكني غضب كاف لدهس الشاب كما يدهس الصرصور، ولكني اكتفيت بالمشاهدة ثم انتقلت سريعًا إلى المشهد الأخير للشاب وأخذت أراقب عذابه.
أراقب تألمه بلا شفقة.
أراقب موته بتشفي.
لقد انتقمت منه كما يجب، ولكن هل يستحق كل هذا؟
نعم، عقابه ملائم لجرمه.
وهل هو مسؤول عن جرائمه؟
ماذا تعني؟
ألست أنا من كتبت كل هذا؟ ألست أنا من جعله يرتكب كل هذه الخطايا؟
كيف أشعر بسعادة من جراء تعذيب هذا المجرم معدوم الإرادة الذي لم يؤدِ سوى الدور الذي رسمته له بدقة؟
كيف شعرت بالغضب نحوه؟
هل يجوز لي الغضب على شيء صنعته بيدي؟
ألا يجب أن أغضب من نفسي؟
ألست المسؤول؟
ألست المسؤول؟