الجمعة، 24 نوفمبر 2017

تجديد


ويل لنا من غدر الزمن!

بدأت حياتي بآمالٍ عظيمة.

جميلة براقة كنت، وقد مكنني ذلك من الحصول هذه الوظيفة الهامة، في هذا الموقع المتميز.

واجهت العواصف والرياح بصدر مفتوح وكان يكفيني نظرات الاهتمام من الأخرين، ولكن لا شيء يبقى على حاله.

لم تعاملني الأيام بشفقة، وذهب جمالي مع السنوات، وضاعت ملامحي أو كادت.

لم يعد أحد يبال بي.. يمرون بجانبي ولا يلاحظوني.

وفي النهاية جاء الموظفون ببديلتي الجميلة الشابة.. انتزعوني بعنف وألقوا بي في قارعة الطريق.

أنهوا عملهم وانصرفوا دون حتى النظر نحوي.

لا ألومهم..


ففي النهاية.. ما أنا إلا لافتة صدئة.

الاثنين، 17 يوليو 2017

العبث



1- التعرف على المكان


دوار ورؤية مشوشة..
أُغمض عيني، أتكأ بذراعيّ على ركبتيّ.. لا فائدة..
أركع على الأرض على ركبتيّ وكفيّ، وأتقيأ.
وبالرغم من المرارة في حلقي، أشعر أنني أفضل حالًا.
أعتدل بهدوء محاولًا تفادي القيء، وأنظر حولي لأستكشف المكان.
المكان يبدو مألوفًا، ولكن شعور غريب داخلي يُنبئني أنني لم أزره من قبل.
هل شاهدت صورة له؟
لا.. لا. أشعر أنني أراه للمرة الأولى.. ولكني أعرفه، أنا واثق من هذا.
أشعر أنني بخير الآن، ولكن الرؤية لا تزال ضبابية، ليست ضبابية بالمعنى المعروف ولكن ثمة خطب ما، لا أستطيع وصفه أو التعبير عنه بالكلمات ولا حتى بالأفكار.. ولكني سأحاول.
يبدو المكان غير حقيقي وكأنه رسم بفرشاة رسام فاشل.. منقوص.. ألوانه باهتة.
نظرت إلى نفسي فوجدتني في صورتي الطبيعية!
أخذت أنقل بصري بيني وبين المكان لأتأكد من الأمر، بالفعل لا عيب في رؤيتي، فها أنا أرى نفسي بصورة ممتازة، المشكلة إذن في هذا المكان.
بدأت السير والأمر يزداد غرابة.
الأشياء حولي منقوصة مشوهة.. باهتة الألوان أو بلا ألوان.. يتجاور الظل مع الضوء في تحدي سافر لقوانين الفيزياء.
وفجأة، ومع استدارة مني وجدتني محاطًا بالمسوخ.
نعم مسوخ!
سيل من البشر بلا ملامح، يرتدون ملابس شاحبة، حتى أنني لا أستطيع تبينها.
هلعت وكدت أهرب فزعًا، ولكنهم لم يعبئوا بي ومروا حولي بلا مبالاة.
عبرت ما يشبه الطريق إلى الجانب الأخر ومنه دلفت إلى ما بدا لي كشارع ميزته الوحيدة أن عدد المسوخ به أقل.
أخذت أسير بحذر محاولًا تفادي المسوخ قدر المستطاع، ولكن خوفي قل كثيرًا بعدما تأكدت أنهم لا يبالون بي.
سرت حتى هدني التعب والوضع كما هو، الأشياء كلها غير واضحة المعالم، أعرفها بالتخمين: هذا يبدو بيتًا، وهذا يبدو متجرًا، وفجأة وعلى غير العادة وجدت مقهى واضحًا وسط هذا العالم المطموس.
وقفتُ أتطلع إلى المقهى بانبهار.. شيء يبدو حقيقيًا وواضحًا وسط هذه الخرائب السريالية، وبلا تردد توجهت إليه وجلست على أول مقعد شاغر.
نظرة سريعة حولي فتبين لي أن كل من حولي مسوخ، جاءني مسخ آخر وسألني ببساطة عن طلبي، فطلبت كوبًا من القهوة وأنا أشعر بالغرابة، ولكن من يدري ربما يتحسن الوضع بعد تناول القهوة.
وأنا أتناول القهوة بدا لي المقهى مألوفًا. مألوفًا بالرغم من ثقتي أنني أراه للمرة الأولى.
تباً! ما يحدث لي.
أنهيتُ القهوة التي كانت بلا طعم وكدت أقوم، ثم تذكرت أنني لم أتفقد جيوبي لأعرف هل أمتلك نقودًا أم لا، وقبل أن أفعل لمحته قادمًا من بعيد.
أخيرًا.. وجه طبيعي لإنسان طبيعي وسط غابة المسوخ هذه. ربما يمكنني أن أجد لديه بعض الإجابات.
توجه نحو المقهى بتلقائية بخطوات واثقة حفظت الطريق.. عبر أمامي ولم يعرني اهتمامًا هو الآخر وجلس صامتًا، وما هي لحظات حتى جاءه المسخ بطلبه.
هو معروف هنا إذن.
أخذت أتفحص وجهه بتمعن، هو الأخر يبدو لي مألوفًا.
بذلت قصارى جهدي لأتذكر أين رأيته من قبل ولكني كلما فكرت أكثر ازددت ثقة من أنني لم أره قبلًا.
أغمضت عيني وأخذت أحاول استحضار صورته في عقلي ولكني فشلت وبدلًا من ذلك أخذت أصفه داخل رأسي وهنا عرفت لماذا يبدو مألوفًا، ولماذا يبدو المقهى مألوفًا هو الآخر.
ولكن هذا مستحيل.
بالتأكيد أنا أحلم.. أو جننت.
- - - - - - - - - - -









2- الغرق في الأحداث
شيء من اثنين: إنني أحلم أو أنني فقدتُ عقلي.
ولكن كيف يمكنني التأكد؟
كل ما يحيط بي من أماكن مشوهة ومسوخ يرجح أنني غارق حتى أذني في كابوس، ولكن الأشياء الواضحة تنبأني أنني قد فقدت عقلي، خاصة بعدما تعرفت على الشاب الذي يجلس في الجوار والتعاسة بادية على ملامحه.
نعم تعرفت عليه، وليس هذا فقط، بل أعلم أيضًا أسباب تعاسته بالتفصيل، فأنا من كتبت كل هذا.
نعم، أنا كاتب وما حولي يخبرني بوضوح أنني الآن داخل روايتي الأخيرة، محاطًا بالشخصيات التي خلقتها من خيالي في المكان التي تدور به الأحداث.
ولكن لماذا تبدو معظم الأشياء مشوهة، ولماذا يبدو البشر كمسوخ.
وهنا توصلت لما يشبه الإجابة.
ربما يكون السبب هو أنا.
نعم أنا المسؤول عن هذا، فأنا من لم يهتم برسم المكان بالكلمات كما يجب، وبالطبع لم أهتم بوصف الأشخاص الهامشيين الذين لا علاقة لهم بأحداث الرواية.
فهمت الآن لماذا كانت القهوة بلا مذاق، فلم أهتم بوصف مذاق القهوة، ومن يستطيع وصف سحر القهوة بالكلمات الصماء.
مشوشًا ظللت جالسًا لا أعرف ما عليّ فعله الآن.
إذا كان هذا صحيحًا، وأنا الآن داخل روايتي فأنا أعرف جيدًا ما سيحدث، نحن الآن في منتصف القصة تقريبًا.
إذا كانت ذاكرتي جيدة فهذا الشاب سيمكث لساعةٍ أُخرى غارقًا في أفكاره، ويقوم بعدها ليقابل حبيبته التي ستخبره أن علاقتهما يجب أن تنتهي، ولن يعود بمقدورهما اللقاء مجددًا.
الشاب التعس الذي لا يعرف هذا -وإن كان لديه شعور سيء حول هذا اللقاء- طُرِدَ من عمله منذ ساعات، هذا العمل الذي كان يعتبره الفرصة الأخيرة للاحتفاظ بحبه الوحيد.
فقيرًا هو يكاد يكون معدمًا، بينما تنحدر فتاته من أسرة ميسورة الحال، وتلك الفتاة هي بطلة روايتي الحقيقية بينما لا يزيد هو عن كونه مجرد محطة عابرة في حياتها.
أعرف فيما يفكر الآن، هو يفكر هل يخبرها بخيبته الأخيرة أم يخفي الأمر عنها عله يتمكن من الحصول على عمل أخر في وقت قريب.
الأحمق لا يعرف أن الفتاة قررت تركه بصورة نهائية، وستسافر مع أسرتها للاستقرار بالخارج بشكل نهائي.
نعم هو لا يعرف أي شيء عن المستقبل الذي ينتظره، لا أحد يعرف سواي.
لا يعرف اليأس والاكتئاب اللذان سيعيش تحت وطأتهما.
لا يعلم أنه بعد ساعات سيقف أمام النهر مفكرًا في الانتحار ولأنه جبان لن يفعل.
لا يعلم أنه سيصبح مجرم.. وقاتل.
تباً! هذا الشخص الحزين المسالم الذي لا يفصلني عنه سوى أمتار معدودة سيتحول إلى سفاح.
انتابني غضب قوي عندما تذكرت الجرائم القذرة التي سيرتكبها هذا الشاب، حتى أنني فكرت أن أقوم من مكاني وأتوجه إليه وأعاقبه بعنف.
ولكني عاقبته بشكل جيد فيما سيأتي من أحداث، صدقًا لقد تفننت في عقابه وجعلته يتألم بقسوة قبل أن يموت ككلب أجرب.
أفقت من تفكيري عندما قام الشاب من مكانه.
عبثت بجيوبي فوجدت مالًا، دفعت منه حسابي بسرعة وهرعت خلفه، وأخذت أتابعه من مسافة آمنة.
- - - - - - - - - - -










3- العبث
سيسير لمسافةٍ طويلة، فجيوبه خاوية كبيتٍ مهجور، وعليّ الآن أن أسير كل هذه المسافة إنْ كنتُ أريد متابعة ما سيحدث.
وبالرغم من أنني أعرف جيدًا ما سيحدث، فإنني لم أستطع المقاومة، مقاومة مشاهدة ما كتبته يحدث أمام ناظريّ، وسرت خلفه أجر أقدامي.
يا له من أمر عجيب! كيف أشعر بالتعب في هذا العالم الخيالي.
أنا من صنعت هذا العالم ولا يمكن أن تنطبق عليّ قواعده.
يمكنني أن أفعل ما يحلو لي، وربما يمكنني الطيران كذلك.
فلأجرب.
ولدهشتي وجدتني أطفو في الهواء وكأني بلا وزن.
هذا جميل، ولكن ما دمت قادرًا على تخطي الجاذبية وما دمت القواعد لا تنطبق عليا هنا، هل يمكنني كذلك تخطي الزمان والمكان.
لم أفكر كثيرًا في الأمر، فقط أردت أن أكون في مكان اللقاء وزمانه فوجدتني هناك، والحبيبان يجلسان متجاوران، الشاب ينظر إليها بحزن بينما تنظر هي أمامها كي تخفي عيناها الدامعتان، وحتى لا تتأثر بنظرته المتوسلة.
لن يثنيها شيء عن قرارها، لقد فكرتْ مليًا في الأمر، فيما بعد ستشعر ببعض الحزن كلما تذكرت هذا الموقف وكيف قامت مسرعة وغادرت دون أن تنظر خلفها.
بينما سيبقي هو مكانه لساعات يبكي دون دموع، وأخيرًا سيقوم ليمشي بلا هدف حتى يجد نفسه وحيدًا يطل على المياه السوداء للنهر ويفكر في الانتحار ثم يتراجع.
يعيش لأيام تحت وطأة اليأس والاكتئاب -لأيام فقط- فالاكتئاب ترف لا يملكه من لا يملك قوت يومه.
لماذا أشغل رأسي بأمر هذا الشاب فدوره في الرواية ثانوي.
سريعًا أنتقل إلى وقت ومكان جريمته الأخيرة، الأكثر بشاعة.
تبًا لقد وصفتها بدقة تثير التقزز.
حقًا أنا من كتبت ما يحدث أمام عينيّ، ولكن الوقوف مكتوف الأيدي ومشاهدة بشاعة ما يحدث أصابتني بالتقزز والغضب.
تملكني غضب كاف لدهس الشاب كما يدهس الصرصور، ولكني اكتفيت بالمشاهدة ثم انتقلت سريعًا إلى المشهد الأخير للشاب وأخذت أراقب عذابه.
أراقب تألمه بلا شفقة.
أراقب موته بتشفي.
لقد انتقمت منه كما يجب، ولكن هل يستحق كل هذا؟
نعم، عقابه ملائم لجرمه.
وهل هو مسؤول عن جرائمه؟
ماذا تعني؟
ألست أنا من كتبت كل هذا؟ ألست أنا من جعله يرتكب كل هذه الخطايا؟
كيف أشعر بسعادة من جراء تعذيب هذا المجرم معدوم الإرادة الذي لم يؤدِ سوى الدور الذي رسمته له بدقة؟
كيف شعرت بالغضب نحوه؟
هل يجوز لي الغضب على شيء صنعته بيدي؟
ألا يجب أن أغضب من نفسي؟
ألست المسؤول؟
ألست المسؤول؟

الأربعاء، 7 يونيو 2017

جناح الفراشة


(1)

ثلاثة أشهر دون كتابة. ما أصعب هذا!

وذلك بالرغم من أنه لم يكن يكتسب من الكتابة، وطوال الخمس سنوات التي اتخذ فيها من الكتابة مهنة، لم يجني من ورائها قرشاً واحداً.

منذ البداية، كان قراره ألا يعتمد على الكتابة كمصدر للرزق، ولم يتحول إلى الكتابة إلا بعدما أصبح لديه مشروعاً يدر عليه دخلاً ثابتاً يكفيه لعيش حياة كريمة.

كانت الأسباب التي بنى رأيه عليها، تبدو له منطقية تماماً وإن كانت لا تخلو من نرجسية وغرور.

كان يرى أن الكاتب الذي يريد الاعتماد على الكتابة كمصدر للرزق، عليه أن يقدم الكثير من التنازلات من أجل أن ينال استحسان أكثر عدد ممكن من القراء، وستتحول كتابته مع مرور الوقت إلى كتابة تجارية خالية من الدسم، هذا إنْ كان لديه دسم من الأساس.

لذا فقد كان يعتبر نفسه كاتباً جيداً، ويرى أنه ربما يصبح واحداً من أعظم الكتاب في المستقبل، وهذا غرور لا شك فيه.

من المحرج دائماً لكاتب أن يتحدث عن كاتب آخر، ولكن بما أن هذا الكاتب هو بطل قصتي فلابد من توضيح كل ما يتعلق به.

من وجهة نظري أرى أنه كاتب لا بأس به، يمتلك موهبة واضحة، وله بعض الأفكار الأصيلة، ولكن هذا هو كل شيء.

وهذا لن يكفيه بالتأكيد ليصبح كاتباً عظيماً كما يتوقع.

فلنترك هذا الأمر للزمن. ربما يتطور ويجد ضالته ويصل إلى ما يصبو إليه، وربما يظل كما هو. هذا ما سوف يجيب عنه الزمن وحده.

نعود إلى بطلنا وقد جلس أمام شاشة حاسوبه يتطلع إلى الصفحة البيضاء المثيرة للحماس إنْ كان لديك ما تكتبه، والمثيرة للاكتئاب إذا كنت عاجزاً عن كتابة حرف واحد.

كل يوم، يجلس أمام شاشة الحاسوب يتطلع بشرود إلى الشاشة البيضاء، واضعاً يديه على لوحة المفاتيح، أملاً في بعثرة الكثير من الحروف مكوناً كلمات تعبر عن بعض الأفكار.

كل يوم ولمدة تسعين يوم، ولم يكتب حرفاً واحداً.

يعطي لهذا الأمر ساعة كاملة، وبعد أن يفشل يقوم بفتح الفيس بوك، ويظل يتفقد المنشورات بتركيز غير حقيقي، حتى تدمع عيناه من الألم، فيغلق الحاسوب ويقوم.

أكثر من مرة حاول التشاغل بفعل أي شيء حتى ينجو بنفسه من جلسة التعذيب اليومية التي لا يجني شيئاً من ورائها، ولكنه في النهاية يجد نفسه مشدوداً بقوة غير مرئية ليجلس نفس الجلسة ويحصل على نفس النتيجة.
لا شيء.

في تلك الليلة قرر بإصرار ألا يحاول، وحتى لا يتراجع ارتدى ملابسه وخرج عازماً ألا يعود إلا لينام.

أخذ يتجول في الشوارع الخالية نظراً لتأخر الوقت، ثم جلس على المقهى الأثير لديه، الذي لا يغلق أبوابه أبداً.

مع الرشفة الثالثة من فنجان القهوة جاءته الفكرة، فأنهى قهوته سريعاً، وهرول إلى مسكنه قبل أن تفر منه.

كان الطريق من القهوة إلى منزله لا يزيد عن خمس عشرة دقيقة، ويمكنه اختصار خمس دقائق إذا أراد، وذلك باجتياز ممر ضيق لا يزيد عرضه عن المتر ويمتد لمسافة تقترب من الثلاثين متراً.

كان نادراً ما يجتاز هذا الممر، بالرغم مما يوفره له من وقت ومسافة، ولكنه كان يشعر بالاختناق والدوار كلما مر به ولذلك كان يفضل عليه السير حتى آخر الشارع ويدخل الشارع الذي يقطنه من بدايته.

وقف أمام الممر متردداً لثانية أو اثنتين ثم قرر السير فيه.

أخذ يسير بأقصى سرعة ممكنة باعداً ذراعيه بحيث تلامس كل ذراع إحدى المبنيين وكأنه يخشى أن ينطبقا عليه، ولكنه في الحقيقة كان يفعل هذا ليتوازن، وذلك لأنه إذا لم يفعل ذلك يجد نفسه يتخبط بين المبنيين مثل السكران.

في المرات القليلة التي عبر فيها هذا الممر كان يشخص ببصره نحو نهايته وكأنه غريق ينظر إلى طوق نجاته.

وما أن اجتازه حتى اندفع بجسده اندفاعة أخيرة جعلته في منتصف الشارع.
- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - 
(2)

كان يومه الأول كفتى توصيل.

أخيراً تمكن من شراء دراجة نارية بعد معاناة، والتنقل من عمل لآخر.

استلم الدراجة من المعرض في وقتٍ متأخر، وإنْ لم يمنعه ذلك من الذهاب إلى المقهى ليحتفل مع أصدقاءه، وبعد عدة ساعات قرر العودة إلى مسكنه.

لم يكن متمكناً من القيادة نظراً لأنه بالكاد تعلم القيادة، ولكنه لم يشغل باله بالأمر، فالممارسة ستعلمه جيداً بكل تأكيد.

في طريق عودته، وبالرغم من تأخر الوقت عرج إلى الصيدلية القريبة من مسكنه، والتي كانت بحاجة إلى فتى توصيل، ليتفق معهم على العمل من اليوم التالي.

رحب به المسئول عن الصيدلية، وقد كان دائماً ما يرحب بفتى توصيل جديد، فهم لا يكلفونه قرشاً، ويعتمدون اعتماداً كاملاً على ما يتركه لهم العملاء من بقشيش.

قبل أن ينصرف طلب منه أن يقوم بأول مهمة له، فهناك عميل يحتاج إلى دواء وفتى التوصيل الآخر في مهمة أخرى وسيتأخر.

رحب الفتى بالمهمة، خاصة أن العنوان كان قريباً جداً من مسكنه وبالتالي لن يكلفه شيئاً.

أخذ الدواء وبدأ رحلته.

كما قلت في السابق لم يكن متمكناً من القيادة ولذا فقد كان يواجه مشكلة توازن يتحايل عليها بالتسارع قدر استطاعته.

أطلق العنان لسرعة الدراجة خاصة أن الوقت متأخر والشوارع خالية تماماً من المارة.

وفجأة برز هذا الرجل أمامه وكأن الأرض انشقت عنه.

وكان الاصطدام حتمياً.  


السبت، 6 مايو 2017

الشجرة



بعد ثلاث ساعات من القيادة شعر بأن عضلاته قد تيبست تمامًا ولم يعد بمقدوره الاستمرار، فنظر حوله باحثًا عن مأوى مناسب ولكن الصحراء كانت ممتدة على الجانبين إلى ما لا نهاية.

كانت الشمس في طريقها إلى المغيب فنظر نحو الغسق بافتتان طفولي، سماء برتقالية وقرص الشمس الأصفر يكاد يلامس رمال الصحراء.

ظل يتابع الغروب إلى أن فاجأته شجرة غريبة الشكل، فضغط على مكابح سيارته بقوة نتج عنها صوت صرير قوي شق هدوء المكان.

بعد أن توقفت السيارة تقهقر ليقف بمحازاة الشجرة، وبدا له المنظر ساحرًا، وقرص الشمس يختفي جزئيًا خلف الفروع العارية للشجرة.

انتهز الفرصة وترجل من السيارة، وأخذ يتمايل ويحرك عضلاته محاولًا الاسترخاء، ثم اقترب من الشجرة وأخذ يراقبها بإعجاب.

شجرة غريبة المظهر؛ لها جذع ضخم سرعان ما يتحول إلى جذعين يتباعدان كل في اتجاه، ومن كل جذع تخرج مجموعة من الفروع الجافة، التي بدورها يخرج منها فروع أصغر.

فروع جافة تمامًا، وعارية من أية أوراق، وهذا طبيعي لشجرة تقع وسط الصحراء في مكان لم يتعرف أبدًا على الماء.

الغريب هو كيف نمت تلك الشجرة من الأساس، وهل هي حية أم ميتة!

لمس بيده خشونة جذعها، ثم ما لبث أن أنصرف إلى مشهد الغروب البديع الذي أوشك على الانتهاء، واستند بظهره إلى الشجرة، حتى اختفت الشمس كليًا.

حاول أن يمط جسده مرة أخيرة استعدادًا لمواصلة القيادة، ولكن لم يستطع.

لقد التصق بالشجرة!

في البداية ظن أن الشجرة تفرز صمغًا ما فالتصق بملابسه، فالتفت لينظر خلف كتفه ولدهشته وجد أن جزءًا من مؤخرته قد اختفى داخل الشجرة.

شعر بالفزع وأخذ يحاول التخلص من الشجرة، ولكن محاولاته لم تؤتِّ بأي نتيجة، بل على العكس أخذت الشجرة تمتصه بسرعة أكبر كلما حاول التملص.

وفي النهاية أطلق صرخة فزعة، قبل أن يختفي وتزداد الفروع فرعًا جديدًا. 

السبت، 8 أبريل 2017

ذكريات بلا ذاكرة!



أمشي ببطء في إحدى شوارع باريس.
أعرف أنها باريس ولكن كيف عرفت ذلك!
أظنني لم أزر باريس قبلاً، نعم أنا متأكد من ذلك.
أرفع رأسي وأُلقي نظرة محيطية حولي.. الشارع متوسط العرض، محاط ببنايات ملتصقة موحدة الشكل، حتى أنها تبدو كبناية واحدة ممتدة بطول الشارع، ترتفع لخمسة طوابق.
وأشجار بارتفاع البنايات متناثرة على جانبي الطريق على مسافات متساوية.
رفعت رأسي نحو السماء.. الجو صحو مع وجود القليل من الغيوم متناثرة في صفحة السماء جاعلة المشهد أكثر جمالاً.
عدت إلى نفسي، وبدأت أتفقدني؛
من نظرتي نحو نفسي ومن يمر بجواري، أرى أنني متوسط الطول، أميل إلى النحافة، أرتدي سروالاً رمادياً وحذاءً رياضياً مريحاً له نفس لون السروال ولكن أفتح كثيراً، وقميصاً أبيض اللون، فضفاضاً، مشمر الكمّين إلى منتصف الساعدين.
نظرت إلى ما ظهر من ساعدي وكفي فشعرت أنهما أفتح مما أتذكر.
أتذكر!
ما أتذكر؟ من أنا؟ من أين جئت؟ لا أعرف.
هل فقدت ذاكرتي.
شعور غريب ينتابني، ليس هلعاً، ربما فضول لمعرفة من أنا.
كيف لا أتذكر أي شيء عني ولكني أشعر أنني مثقل بالذكريات، أشعر أنني أعرف أشياء كثيرة، أعي أشياء كثيرة، حتى أنني أشعر أن معرفة كنهي لن يضيف إليّ كثيراً.
أتوقف لأفتش جيوبي عليّ أجد ما يساعدني ولكن لم أجد سوى القليل من النقود ولا شيء أخر، لا أوراق هوية، لا هاتف نقّال.
أوراق هوية! هاتف نقّال!
كيف أعرف هذه الأشياء ولا أعرف من أنا.
هل من يفقد ذاكرته يستطيع تذكر كل ما عرفه وما خبره في الحياة بينما يعجز عن معرفته نفسه.
هذا غريب.
ولكني لست مهتماً.. أشعر بالغرابة كوني لست مهتماً، ولكني لا أبالي.
لست قلقاً، ولا مشاعر سلبية على الإطلاق تخطر لي، بل على العكس، أشعر بشيء من السعادة، أشعر بالخفة والصحة.
أنطلق مستغلاً خفتي، أكاد لا ألمس الأرض من فرط خفتي.
أصل إلى نهاية الشارع فألمح لافتة باسمه "جادة كليبر"، على يميني "كافيه كليبر" وقد امتلأ بالرواد الذين افترشوا الرصيف ليستمتعوا بالجو الصحو والهواء العليل.
دون تفكير أبحث بعيني عن مكان شاغر، وعندما أجده أجلس، ويأتيني النادل سريعاً متسائلاً عن طلبي.
بفرنسية فاجأتني طلبت قهوة فرنسية بدون سكر. لحظات وجاء بقهوتي فشكرته.
لا أظن أنني كنت أتقن الفرنسية، ولكن بدا لي الآن أنني أستطيع تحدثها بطلاقة. هذا غريب.
لا أمتلك ذاكرة لأعرف من أكون ولكن لدي ذكريات تنبهني كل لحظة بأن ما أفعله ليس من خصالي.
حتى مع كل هذه المشاعر الغريبة، لا أشعر بأي غرابة بل أشعر بالراحة والاستمتاع.
أنتهي من القهوة فأدفع الحساب بما معي من نقود وأعاود السير.
أعبر الميدان فأرى برج إيفيل مباشرة أمامي لا يفصلني عنه سوى نهر السين.
أعبر النهر بتؤدة مستمتعاً بالمشهد، وأقف على مسافة من البرج لأتمكن من رؤيته كاملاً دون أن أرفع رأسي عالياً، مستظلاً ببعض الأشجار بالرغم من أن أشعة الشمس لا تضايقني على الإطلاق خاصة أنها كانت في طريقها إلى المغيب.
المغيب!
هنا شعرت بشيء من الخوف يتخلل عظامي.
بخوف أستمتع برؤية البرج الحديدي، وأراقب قرص الشمس خلفي وهو يختفي رويداً رويداً.
مشاعري بذاتي تزداد تشتتاً.
ذكرياتي تضمحل.

وتغرب الشمس.. ويختفي كل شيء. 

الثلاثاء، 21 مارس 2017

القادم



وحيداً
في الظلام أطفو..
في الظلام أتخبط..
ويمر الوقت..
الظلام مستمر، والمكان يزداد ضيقاً.
أنا آمن هنا.
حقاً أشعر بالاختناق في بعض الأحيان، ولكني آمن هنا، وهذا يكفيني.
أنت حي.. أنا حي.. وما الحياة!
تبدو شيئاً جيداً، وإنْ كنت لا أعرف ما تعنيه هذه الحياة.
يتناهى إلى سمعي أصوات مختلطة، بعضها أصبح مألوفاً من التكرار.
أستأنس بالأصوات المألوفة، وأخاف من الأصوات الغريبة.
أخاف.. وما الخوف!
يبدو شيئاً سيئاً، ولا أعرف ماهيته كذلك.
ويمر الوقت..
الطرقات تدق في رأسي، والمكان يزداد ضيقاً.
تزداد وتيرة الطرقات.
لم أعد أحتمل أكثر، يجب عليَ الخروج.
الخروج! إلى أين؟
إلى مكان آخر لا أعرفه. يبدو هذا مخيفاً.
الخوف، أصبحت تلك الكلمة مألوفة أكثر وتثير معاني ومشاعر أجهلها ولا أحبها.
المكان يزداد ضيقاً، والطرقات تزداد وتيرتها.
أرى نقطة ضوء.
ضوء.. وما الضوء!
هل هذا هو سبيلي للخروج؟
يعوزني الوقت لأفكر.. لأقرر.
ولكن الضغط يزداد، وأندفع رغماً عني نحو نقطة الضوء.. أقاوم بلا فائدة.
اختنق.. الألم يعتصرني.
واتسع المكان.. وضوء مبهر أغشى بصري.
أجاهد لأخذ نفسي.. سأموت قبل أن أحيا.
قبل أن أفكر في هذه الكلمة الجديدة، الموت!
ضربة على ظهري، أعادتني إلى الحياة.
فشهقت، وأندفع الهواء يمزق رئتي.
أصوات مختلطة تطرق سمعي.
ضوء مبهر.
صرخت، فأفزعتني الصرخة.

فبكيت.