السبت، 8 أبريل 2017

ذكريات بلا ذاكرة!



أمشي ببطء في إحدى شوارع باريس.
أعرف أنها باريس ولكن كيف عرفت ذلك!
أظنني لم أزر باريس قبلاً، نعم أنا متأكد من ذلك.
أرفع رأسي وأُلقي نظرة محيطية حولي.. الشارع متوسط العرض، محاط ببنايات ملتصقة موحدة الشكل، حتى أنها تبدو كبناية واحدة ممتدة بطول الشارع، ترتفع لخمسة طوابق.
وأشجار بارتفاع البنايات متناثرة على جانبي الطريق على مسافات متساوية.
رفعت رأسي نحو السماء.. الجو صحو مع وجود القليل من الغيوم متناثرة في صفحة السماء جاعلة المشهد أكثر جمالاً.
عدت إلى نفسي، وبدأت أتفقدني؛
من نظرتي نحو نفسي ومن يمر بجواري، أرى أنني متوسط الطول، أميل إلى النحافة، أرتدي سروالاً رمادياً وحذاءً رياضياً مريحاً له نفس لون السروال ولكن أفتح كثيراً، وقميصاً أبيض اللون، فضفاضاً، مشمر الكمّين إلى منتصف الساعدين.
نظرت إلى ما ظهر من ساعدي وكفي فشعرت أنهما أفتح مما أتذكر.
أتذكر!
ما أتذكر؟ من أنا؟ من أين جئت؟ لا أعرف.
هل فقدت ذاكرتي.
شعور غريب ينتابني، ليس هلعاً، ربما فضول لمعرفة من أنا.
كيف لا أتذكر أي شيء عني ولكني أشعر أنني مثقل بالذكريات، أشعر أنني أعرف أشياء كثيرة، أعي أشياء كثيرة، حتى أنني أشعر أن معرفة كنهي لن يضيف إليّ كثيراً.
أتوقف لأفتش جيوبي عليّ أجد ما يساعدني ولكن لم أجد سوى القليل من النقود ولا شيء أخر، لا أوراق هوية، لا هاتف نقّال.
أوراق هوية! هاتف نقّال!
كيف أعرف هذه الأشياء ولا أعرف من أنا.
هل من يفقد ذاكرته يستطيع تذكر كل ما عرفه وما خبره في الحياة بينما يعجز عن معرفته نفسه.
هذا غريب.
ولكني لست مهتماً.. أشعر بالغرابة كوني لست مهتماً، ولكني لا أبالي.
لست قلقاً، ولا مشاعر سلبية على الإطلاق تخطر لي، بل على العكس، أشعر بشيء من السعادة، أشعر بالخفة والصحة.
أنطلق مستغلاً خفتي، أكاد لا ألمس الأرض من فرط خفتي.
أصل إلى نهاية الشارع فألمح لافتة باسمه "جادة كليبر"، على يميني "كافيه كليبر" وقد امتلأ بالرواد الذين افترشوا الرصيف ليستمتعوا بالجو الصحو والهواء العليل.
دون تفكير أبحث بعيني عن مكان شاغر، وعندما أجده أجلس، ويأتيني النادل سريعاً متسائلاً عن طلبي.
بفرنسية فاجأتني طلبت قهوة فرنسية بدون سكر. لحظات وجاء بقهوتي فشكرته.
لا أظن أنني كنت أتقن الفرنسية، ولكن بدا لي الآن أنني أستطيع تحدثها بطلاقة. هذا غريب.
لا أمتلك ذاكرة لأعرف من أكون ولكن لدي ذكريات تنبهني كل لحظة بأن ما أفعله ليس من خصالي.
حتى مع كل هذه المشاعر الغريبة، لا أشعر بأي غرابة بل أشعر بالراحة والاستمتاع.
أنتهي من القهوة فأدفع الحساب بما معي من نقود وأعاود السير.
أعبر الميدان فأرى برج إيفيل مباشرة أمامي لا يفصلني عنه سوى نهر السين.
أعبر النهر بتؤدة مستمتعاً بالمشهد، وأقف على مسافة من البرج لأتمكن من رؤيته كاملاً دون أن أرفع رأسي عالياً، مستظلاً ببعض الأشجار بالرغم من أن أشعة الشمس لا تضايقني على الإطلاق خاصة أنها كانت في طريقها إلى المغيب.
المغيب!
هنا شعرت بشيء من الخوف يتخلل عظامي.
بخوف أستمتع برؤية البرج الحديدي، وأراقب قرص الشمس خلفي وهو يختفي رويداً رويداً.
مشاعري بذاتي تزداد تشتتاً.
ذكرياتي تضمحل.

وتغرب الشمس.. ويختفي كل شيء.