الاثنين، 5 ديسمبر 2016

ما وراء الكتابة



أردت أن أكتب لكَ ما أشعر به، كانت الأفكار واضحة ومرتبة في رأسي، بيد أنني ما أن جلست وأمسكت بالقلم، حتى تبخر كل شيء من رأسي.

هل تذكر عندما كان النقاش يحتدم بيننا حول أمر ما، وقتها تنساب الكلمات من بين شفتاي بسهولة، مرتبة، ولكنها لا تكون كذلك في الحقيقة.

عادة ما تكون تلك الكلمات بعيدة كل البعد عما أقصده، وكأن تلك الكلمات تخرج من فم لا يأخذ أوامره من عقلي، وما أن أسمعها حتى أكتشف مدى سخافتها، فأحاول التعبير عما أقصده حقاً بكلمات أوضح.

أقترب كثيراً مما أريد قوله في المحاولة الثانية، وإنْ لم أنجح يوماً في تحويل أفكاري المجردة لكلمات مسموعة.

عندما اتجهت إلى الكتابة، كنت أظن أنها - أي الكتابة - يمكنها أن تحرر عقلي، ويمكنني إخراج الأفكار والمشاعر التي تملأ رأسي حد التخمة، ولكني مرة أخرى كنت مخطئاً تماماً.

في البداية حاولت التركيز على ما يشغلني أكثر من أفكار، وما يختبئ داخل عقلي حبيساً يتوق إلى الفرارمن زنزانته الضيقة، وأعترف حتى لا أكون جاحداً، أن الكتابة حقاً باستطاعتها تحرير الأفكار من أسرها، ولكن غالباً ما تتحرر أفكار أخرى غير ما أقصدها، وما أريد لها الحرية.

وبالرغم من ذلك، وجدت في ذلك متعة، وكأن أفكاراً جديدة تولد على يد القلم، ولادة سهلة حيناً، وعسيرة أحياناً.

لذا فبدلاً من تجهيز أفكار أود الكتابة عنها، بعدما اكتشفت سخف ذلك، فبدأت أمسك بالقلم دون أن أحمل أية أفكار مسبقة، تاركاً له الحرية كاملة ليكتب ما شاء له أن يكتب، واكتفي بالجلوس على مقاعد المشاهدين، أراقب وأتدخل أحياناً معيقاً تدفق الأفكار، الأمر الذي غالباً ما يؤدي إلى توقف عملية الكتابة برمتها، لأغرق في أفكار أخرى، أفكار لم أستطع يوماً ترجمتها لكلمات، فتتزاحم مع الأفكار الجبيسة داخل عقلي.

لماذا أكتب إذن إذا لم اكن قادراً على البوح بما يعتلي به صدري ويضج به عقلي؟ لا أعلم يقيناً الإجابة الحقيقية على هذا السؤال، ولكني مع ذلك سأحاول جاهداً، فستصبح هذه الرسالة بلا معنى إنْ لم أستطع الإجابة على هذا السؤال.

كما أخبرتك، عندما أترك أمر الكتابة للقلم، عادة ما تخرج أفكاراً جديدة لم أفكر بها من قبل، أو لنتوخى الدقة، أفكار لم تكن تتصدر المشهد في رأسي، وكانت مختفية وسط زحام الأفكار، فيبدو لي التحلص من تلك الأفكار شيئاً جيداً، فربما يتاح لي بعد التخلص منها استحضار أفكاري الملِحة وتحويلها إلى كلمات.

صحيح أنني لا أتخلص من تلك الأفكار بشكل كامل، فبخروجها من عقلي تتولد أفكاراً جديدة لتحل محلها، ولكن ذلك أيضاً يبدو لي شيئاً جيداً، فاستمرار الأفكار يعني استمرار القدرة على الكتابة.

ذلك يشعرني أنني لايزال لدي ما أقوله، وأن كلماتي لم تنضب بعد، وهذا أمر طبيعي، من وجهة نظري، فإذا ما استطعت يوماً من التخلص من كل الأفكار التي تثقل صدري، فوقتها سيكون عليّ التوقف عن الكتابة، لأن الكتابة وقتها ستصبح ضرباً من الهراء، ومحاولة لتضييع وقتي ووقت القارئ التعس، الذي ساقه حظه العسر لتقع كلماتي أمامه.

ومثل الحجر الذي يلقى على سطح الماء الساكن فيحركه ويعيد إليه الحياة، تلك الأفكار الجديدة تعيد الحياة إلى تخمة الأفكار الحبيسة داخل العقل، ولابد لها من التحرك لتفسح المجال للمزيد من الأفكار.

لذلك توقفت عن محاولة قول ما أريد قوله، فقد أثبتت التجربة فشل الأمر تماماً، وأحاول الالتفات على نفسي، وخداع عقلي، وذلك بمحاولة طرح الفكرة من بعيد تاركاً للقلم حرية إصاغتها بأسلوبه وطريقه، وقد أثبت ذلك فاعلية في بعض الأحيان، فاعلية تجعل ما يكتب يقترب قليلاً من أفكاري الرئيسية.

صحيح أن ذلك يخرج القشور فقط وما اقترب من السطح، ولا يغوص في أعماق الفكرة كما أحب، ولكن القليل من الوجود خير من العدم.

وها أنا أُنهي رسالتي دون أن أستطيع التعبير عما كان يجيش به صدري في بداية الرسالة. تباً.


السبت، 19 نوفمبر 2016

فن إضاعة الوقت



هل يجوز اعتبار إضاعة الوقت فناً؟

لا أظن ذلك، لذا فيمكنك اعتبار أنني اخترت عنواناً مجازياً.

معظمنا يقوم بإضاعة وقته بصورة أو بأخرى، أحياناً دون وعي، وأحياناً عن قصد وإصرار، متناسين أن الوقت الذي يضيع هو في النهاية إضاعة لعمرنا القصير في هذه الحياة.

هل الزمن شيء نسبي أم أنه ثابت من الثوابت الكونية؟

هناك الكثير من الجدل حول هذا الموضوع، هناك من يعتبر الزمن نسبي مثله مثل كل الأشياء الأخرى، وهناك من يعتبره من الثوابت، وربما يعتبر الوقت هو البعد الرابع.

بعيداً عن هذا الجدل، وسواءً كان الوقت نسبي أم ثابت كوني، يمكننا أن نتفق أن شعورنا بالزمن أو بالوقت نسبي وغير ثابت، ويتغير تبعاً لحالتنا النفسية وطبيعة الأحداث التي تجري حولنا.

ربما نتفق أنه عادة ما يمر الوقت سريعاً في لحظات الفرح ويمر بطيئاً في لحظات الحزن، ويكون أكثر بطئاً في أوقات الانتظار والترقب.

دائماً ما نسمح نصائح عن أهمية استثمار الوقت فيما يفيد، وعدم إضاعته بلا طائل، والجميع يعرف الحكمة التي تقول " الوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك "

ولكن ما هو الوقت الضائع؟ ما هو التعريف الذي يمكن أن يصف وقتاً ما بأنه وقت ضائع أو وقتاً مستثمر بصورة جيدة؟

سنعود مرة أخرى إلى النسبية، فالأمر يختلف من شخص لأخر ولا يجوز تعميم تعريف لإضاعة الوقت.

أظن أن الوقت الذي تقضيه في فعل شيء تريد فعله، حتى وإن كان ما تود فعله هو الاستلقاء وعدم فعل أي شيء، هو وقت غير ضائع.

أما إذا كنت لا تعرف ما تريد فعله، أو لا تجد ما تفعله، أو تنتظر حدوث شيء ما، فتفعل أي شيء إزجاءً للوقت، فهذا هو الوقت الضائع.

إذا فقد الإنسان شغفه بما يفعله أو بالحياة بشكلٍ عام، فمن الصعب، وربما من المستحيل عليه أن يستثمر وقته بشكل فعال، بل العكس من ذلك سنجده لا يعير الوقت أي اهتمام ويمر به الزمن دون أن يشعر.

لا يمكننا إنكار حقيقة أن استثمار الوقت في فعل ما يفيد الفرد، من قراءة، أو دراسة تساعده على تطوير نفسه في العمل، شيء هام ويصب في مصلحة الإنسان.

ولكن

ماذا إذا ما كان هذا العمل مكروهاً من الفرد ولا يناسب ميوله، هل يكون استثمار الوقت فيه مفيداً للإنسان أم يعتبر أيضاً وقتاً ضائعاً؟


في اعتقادي إذا لم يستثمر الإنسان وقته في فعل شيء يحبه ويناسب شخصيته ومهاراته فهو يضيع وقته بطريقة أسوأ، بطريقة تنتهي به إلى إضاعة عمره هباءً.

الاثنين، 7 نوفمبر 2016

الحلم.. الطموح.. والحافز


لكل منا أحلامه، ولكل منا طموحاته، والحافز هو الوسيلة الوحيدة لتحقيق أحلامنا وطموحاتنا.
ولكن ما هو الفرق بين الحلم والطموح؟
وكيف يمكننا خلق حافز يساعدنا في تحقيق أحلامنا؟

في البداية يجب أن نُعّرف الحافز، هل الحافز من الممكن أن يأتي من الخارج أم أنه ينبع منا ومن طموحاتنا وأحلامنا.
بمعنى؛ هل الحافز يأتي كنتيجة طبيعية للحلم والطموح أم أنه يمكن أن يأتي من مؤثرات خارجية؟
أظن أن الحافز يمكنه أن يأتي من الداخل كما يمكنه أن يأتي من الخارج، وإنْ كان من الأفضل أن ينبع الحافز من داخلنا لأنه توفره من مصدر خارجي غير مضمون.
ولكن لا يمكن أن يتواجد الحافز دون وجود حلم يصبو الإنسان لتحقيقه أو طموح لشيء يريد الوصول إليه.
نعود الآن إلى السؤال الأول؛ ما الفرق بين الحلم والطموح؟
هل هناك فرق حقاً أم أنهما الشيء نفسه؟
بالتأكيد هناك فرق كبير بينهما؛ الحلم هو شيء عام مجمل يحمل بين طياته كل شيء، يمكنك أن تحلم بما تشاء مهما كان مستحيلاً، يمكن لأحلامك أن تكون قابلة للتحقيق أو صعبة أو حتى مستحيلة.
يمكنك أن تحلم بالطيران، أن تتمكن من الطيران مثل الطيور، أو حتى مثل سوبر مان، لا جرم في الحلم، حتى وإن كان مستحيلاً، فلولا أن هناك رجالاً حلموا أحلاماً مستحيلة لما تمكننا من الوصول إلى ما نحن عليه من تطور تكنولوجي وعلمي.
ولكن
ليست كل الأحلام مفيدة للإنسان أو للبشرية، فبعض الأحلام إن لم تضر لا تنفع.
هل هناك فائدة من أن يحلم إنسان أن يصبح مطرباً شهيراً وهو لا يملك صوتاً يساعده على تحقيق حلمه؟
هل هناك فائدة من أن يحلم إنسان أن يصبح لاعب كرة مميز وهو لا يجيد لعب الكرة، ولا يملك حتى الموهبة؟
يجب أن تعرف نفسك جيداً وتعرف إمكانياتك وما أنت قادر على فعله، وما يمكنك أن تفعل حتى تطور من نفسك استغلالاً لمواهبك الموجودة بكل تأكيد قبل أن يسيطر عليك حلم صعب المنال ويضيع عمرك وراء سراب.
الطموح يختلف كثيراً عن هذا.
الطموح يكون لتحقيق تطور ملحوظ في شيء اخترته بالفعل وبدأت تخطو فيه خطوات واضحة، وتطمح في تطوير نفسك والوصول إلى موقع أفضل مما أنت عليه الآن.
وهذا شيء محمود ومفيد ويجب أن تتمسك به ولا تيأس مهما واجهت من صعوبات ومعوقات، والحافز سيساعدك كثيراً في تحقيق ما تصبو إليه، فبدون حافز قوي لن تستطيع مجابهة تلك الصعوبات والقفز فوق ما يعيق تقدمك.

احلم كما تحب ولكن كن حذراً، ولا تجعل لطموحك سقف. 

الأحد، 14 أغسطس 2016

الحنين الضائع


كما أقول دائماً؛ إن كل إنسان هو حالة خاصة، وليس بالضرورة ما ينطبق عليك ينطبق على إنسان أخر، وأظن أن هذه هي المعضلة الكبرى لعلم النفس.
سأتحدث عن الحنين؛
تحدثت مع بعض الأصدقاء فوجدت أن كلاً منهم يحمل تعريفاً مختلفاً للحنين، لذا فسأتحدث عن الحنين كما أفهمه أنا.
الحنين لا يكون للحدث أو الموقف في حد ذاته، الحنين يكون للمشاعر التي انتابتك إبان حدوث هذا الموقف، فنحن نشعر بالحنين لمشاعرنا القديمة، ويظهر هذا بوضوح عندما تحاول تكرار موقف حدث في الماضي أو تقوم بزيارة أماكن مرتبطة بطفولتك. وقتها ستصاب بصدمة وإحباط لأنك لن تجد مشاعرك القديمة بتكرار الموقف، فالمشاعر لا يمكن صناعتها.
نصل هنا إلى النقطة التالية؛ ما هي المشاعر التي نثمنها ونشعر نحوها بحنين جارف، يجعلنا نتمنى تكرارها مراراً وتكراراً.
أظن أن هذه المشاعر لن تخرج عن سعادة خالصة أو راحة بال طفولية.
وهنا يأتي دور الذاكرة.
إن للذاكرة تأثير ضخم على الحنين، الذاكرة تعبث بنا وتلهو كما تشاء، ننسى الكثير من الأشياء وتنتقي لنا الذاكرة القليل من المشاهد لنتذكرها، فنشعر بالحنين للحظات الجميلة التي نتذكرها.
كما قلت؛ لكي نشعر للحنين يجب أن نتذكر مشاعر السعادة الخالصة أو راحة البال الطفولية، وهذا ما يحدث عادة، فعقلنا يضع تلك المشاعر في المقدمة وينسينا أي مشاعر سلبية مرافقة لتلك المشاعر حتى يكون للحنين معنى.
ماذا لو كان الإنسان لا ينسى؟
ماذا لو كان يتذكر تلك المشاعر الجميلة ولكنه في نفس الوقت لا يزال محتفظاً كذلك بالمشاعر السلبية التي رافقت تلك اللحظات الجميلة؟ هل وقتها سيشعر بالحنين؟
لا أظن ذلك.
من يتذكر الصورة كاملة، من الصعب جداً أن يشعر بالحنين، إلا في حالات نادرة، وهي أن تكون مشاعره الجميلة تلك كانت صافية، لم يعكر صفوها أي مشاعر سلبية.
لذا فقد ذهبت إلى القول "إن من لا ينسى لا يشعر بالحنين"
فمن يرفض عقله نسيان المشاعر السلبية التي رافقت لحظاته السعيدة سيكون بالتأكيد قد ضيع الحنين إلى الأبد. 

الاثنين، 8 أغسطس 2016

أحلام متكررة


عادة لا أشغل عقلي بالتفكير في الأحلام التي تزورني في مناماتي، هذا إنْ تذكرتها في المقام الأول، ففي أغلب الأحيان عند استيقاظي تفر الأحلام من ذاكرتي فرار الإنسان من الموت، وكل ما يعلق بذاكرتي هو أنني كنت أحلم فقط.
هناك حلمان يتكرران معي كثيراً ومنذ سنوات طويلة، ولذلك فقد علقا بذاكرتي رغماً عني، أحدهما حلم سعيد والأخر حلم سيء.

الحلم الأول هو حلم الطيران، وأُسميه حلم تحدي الجاذبية الأرضية.

أمنيتي الأولى كانت ولا تزال هي الطيران؛ الطيران بمعناه الحرفي، أن أستطيع تحدي الجاذبية الأرضية، لأطفو في الهواء.
ولاستحالة الأمر فقد انتقلت هذه الأمنية من فكري الواعي إلى اللاوعي، وبدأت تتبور بصورة واضحة في أحلامي، ولطالما استمتعت بالطيران أثناء نومي.
سأحاول وصف الأمر؛ يشبه الأمر فقداني لوزني، وبذلك أستطيع الطفو في الهواء، فقط دفعة خفيفة للأرض لأطفو في الهواء وأفرد يداي كجناح وهمي وأستمتع بالطيران.
مثل السباحة يحتاج الأمر إلى تدريب حتى تتقنه، وهذا ما حدث بالفعل.
طوال سنوات كان طيراني متعثراً، قريباً جداً من الأرض، وأحتاج من وقت لآخر لملامسة الأرض لأحصل على دفعة جديدة تمكنني من الطيران لبضعة أمتار أخرى، ومع مرور الوقت وتكرار التجربة ربما لمئات المرات، تحسنت بشكل ملحوظ وزاد ارتفاعي عن الأرض، وقل عدد مرات ملامستي للأرض، حتى أنني في مرة من المرات استطعت الطيران بسرعة كبيرة نسبياً، وإنْ لم يتكرر أمر السرعة هذه مرة أخرى.
أظن أنني فضلت الطيران بسرعة بطيئة لأستمتع أكثر، فالسرعة ضد الاستمتاع، وكلما قلت السرعة زاد الاستمتاع.

الحلم الثاني هو حلم عدم الاستعداد، وأسميه حلم متلازمة خريجي كلية الهندسة.

هذا الحلم هو كابوس حقيقي، وأظن أنني بحاجة إلى علاج نفسي لأتخلص منه.
وهذا الحلم باختصار يتمحور حول عدم استعدادي لاختبار ما عليَ أن أخوضه في وقتٍ محدد، ويمر الوقت سريعاً دون أن أستعد بشكلٍ كافٍ.
حلم يبدو عادياً، ولكن تكراره يؤثر على مشاعري بشكل سلبي، خاصة أنه خلال هذا الحلم أستعيد مشاعري الحقيقية أثناء فترة الدراسة والكم الهائل من الاختبارات التي كنت مضطراً لخوضها.

كنت أظن أن هذا الحلم خاص بي إلى أن اكتشفت بالصدفة أن أحد أصدقائي يعاني من نفس الحلم، وهو خريج كلية الهندسة هو الآخر.

الثلاثاء، 2 أغسطس 2016

دائرة القدر



وقف على أطراف القاعة المزدحمة متخفياً وسط الظلام والضوضاء ينظر تجاه العروس بحسرة.

لا يعلم لماذا يفعل هذا، ما الذي دعاه للحضور ليرى حبيبته تزف إلى غيره، كل ما يعرفه أنه كان لزاماً عليه أن يحضر.

ربما كان يتمنى نظرة حزينة تطل من عينيها اللاتين طالما هام بهما عشقاً.. نظرة حزن ترضي غروره كعاشق.. تلك النظرة التي لم يحصل عليها مع الأسف.

فالسعادة البادية عليها لا يمكن بأي حال أن تكون مصطنعة أو مزيفة. هي سعيدة حقاً، الأمر الذي اعتصر قلبه بشدة.

ألقى نظرة أخيرة ولكن هذه النظرة خص بها العريس، غريمه، هذا الرجل الذي يكبرها بخمسة عشر عاماً، فوجده يبتسم برضا، لقد انتصر عليه وإن كان في الغالب لا يعرف أن له منافس.

انسحب بعدها من القاعة بهدوء.

طوال الشهور التي تلت ذلك الموقف، كان يقضي جل وقته يفكر فيه ويستعيده المرة تلو الأخرى، مسترجعاً علاقته بها التي استمرت لأربع سنوات كاملة لتنتهي لأسباب مادية بحتة.

ما كان يحزنه حقاً هو أنها لا تعلم الأسباب الحقيقية وراء إهماله لها حتى دفعها دفعاً لتركه وإنهاء تلك العلاقة.

بعدما تخرجا من الجامعة تم قبوله في التجنيد الإجباري لتضيع سنة أخرى من العمر، وفي تلك السنة توفى والده لتقع مسئولية أسرته على عاتقه.

كان والده محاسباً بإحدى الشركات الخاصة، وبعد شهور من المعاناة استطاعوا صرف معاشه الهزيل، الذي بدا واضحاً للجميع أنه لن يكفي حاجة أسرة مكونة من أم وثلاثة أبناء غيره يدرسون في مراحل تعليمية مختلفة.

كانت أيامه في التجنيد قد قاربت على الانتهاء وكان يجلس وحيداً في الظلام في موقع خدمته عندما رأى المستقبل بوضوح أمامه.

رأى أن عليه أن يعمل بشكل عاجل، وأن يقبل بأي وظيفة يستطيع الحصول عليها ليشارك في مصاريف البيت.

وفي وضع مثل هذا لن يتمكن بالتأكيد من ادخار المال الكافي ليتمكن من الزواج، على الأقل لعدة سنوات قادمة.

ومن وقتها أصبح يتعامل معها بعصبية وإهمال مما دفعها دفعاً لتركه في النهاية.

تظاهر بعدها باللامبالاة حتى أمام نفسه، إلى أن وجد نفسه يتلصص رغماً عنه على حسابها على الفيس بوك ليستقصي أخبارها حتى علم بأمر زواجها الذي حدث بسرعة لم يتوقعها ولم يتمناها بكل تأكيد.

كان لا يزال لديه أمل في أن تتحسن أحواله، ويحاول مرة أخرى التواصل معها ويخبرها بكل شيء لتعود المياه إلى مجاريها، ولكن كل شيء انتهى الآن.

بعد عدة شهور من الاكتئاب التفت مجدداً إلى مستقبله، إلى أن جاءته فرصة للعمل بالخارج فسافر على الفور.

في الفترة الأولى من سنوات غربته كان يقضي جل وقته يتلصص على حسابها ويستقصي أخبارها التي كانت تزيد من تعاسته، خاصة كلما رأى صورة جديدة لها والسعادة تطل بوضوح من محياها.

كان مشاعر الغيرة تلتهمه لأنها ببساطة سعيدة بدونه، سعيدة وهي بعيدة عنه.

بعدها أغرق نفسه في العمل وتفرغ لجمع المال لأكثر من اثنتا عشر سنة، وأخيراً رضخ لتوسلات أمه بالعودة والاستقرار والبحث عن زوجة تناسبه.

خلال تلك السنوات تزوج اثنين من أخوته ولم يبق سوى الأخ الأصغر الذي لا يزال في سنته الأخيرة في الجامعة، وها هو يقترب من السابعة والثلاثين ولم يتزوج بعد.

كان أمه قد أعدت له بالفعل أكثر من عروس ليختار فيما بينهم. أخذ يتطلع إلى الصور بلامبالاة حقيقية حتى رآها.

كان تشبه إلى حدٍ كبير حبيبته التي ظن أنه قد اقتلع ذكراها تماماً من عقله ولكنه اكتشف أن تلك الذكريات كانت تتحين فقط الفرصة المناسبة لتنقض عليه وتتركه صريعاً مهزوماً.

تردد كثيراً قبل الذهاب لزيارتها بصحبة أمه وأخذ يماطل قدر استطاعته إلى أن رضخ في النهاية.

كان يخبر أمه أنها تصغره بخمسة عشر عاماً، ولن تقبل به بالتأكيد، بينما تؤكد له أمه أنه عريس لا يُرفض.

وحدث كل بشيء بسرعة لم يتوقعها، وفجأة وجد نفسه وسط قاعة الأفراح يراقص زوجته المستقبلية ونظرات السعادة والرضا تملأ محياها.

وفجأة ومضت فكرة في رأسه دفعته دفعاً لينظر نحو الطرف البعيد للقاعة حيث الباب ليرى ذلك الشاب يغادر في هدوء.

الجمعة، 29 أبريل 2016

ضمور



شلل أطفال وضمور في عضلات الساقين.

هذا ما أخبرتني به أمي عندما سألتها عن مرضي. ليس من عادة أمي استخدام تلك الكلمات فلم أفهمها وأظن أن أحدهم قد أخبرها بهذه العبارة فحفظتها لتخبرني بها فيما بعد.

قضيت طفولتي حبيس غرفتنا التي تقع في قبو إحدى البنايات المتهالكة. أمي تذهب إلى العمل الذي لم أتمكن يومًا من معرفته وتتركني حبيس الغرفة الضيقة.

تسليتي الوحيدة كانت النظر من النافذة المرتفعة.. أتعلق في الحديد بكلتا يدي وأراقب الأرجل التي تمر من أمامي، أرجل لا يعاني أصحابها من ضمور مثلي.

بعد أن كبرت قليلًا، سمحت لي أمي بالخروج أثناء عدم تواجدها. كنت أجلس قبالة البيت على ورق مقوى أحضره لي أحدهم، وأقضي الوقت في متابعة بقية الأطفال وهم يلهون ويمرحون أحيانًا ويتقاتلون في أحيان أخرى.

لم أذهب إلى المدرسة ولا أعرف شيئًا عن القراءة مثلي مثل أمي، وأبي كذلك كما أظن، وإنْ كنت لا أعرف يقيناً فلم أره يومًا.

سألت أمي عنه ذات مرة فأخبرتني أنه تركنا ورحل، إلى أين، لا تعرف.. فقط هجرنا، أو إذا أردنا توخي الدقة فقد هجرها هيَ فأنا لم أكن سوى جنينًا في رحمها.

كما أخبرتكم لم أستطع أن أعرف ما هو عمل أمي الذي تأتي منه منهكة تمامًا، كل ما عرفته أنه عمل يستنزف طاقتها. سمعت الجارة تلومها مرارًا لأنها تنهك قواها بلا داعي ويمكننا أن نأكل الشهد، على حد قولها.

كانت أمي دومًا ما تتجاهل لوم الجارة وتلميحاتها، ولكنها ذات مرة لم تستطع الصمت فانفجرت صارخة: لن يكون ابني متسولًا.

تلك كانت أمنية أمي التي لم تتحقق للأسف، فبعد موتها لم أجد أمامي سوى التسول، فاتخذت منه مهنة، إذا اعتبرنا التسول مهنة.

بدأت بداية متعثرة ولكني مع الوقت اعتدت وتعلمت كيف يمكنني جني المال، وكيف يمكنني أن أتطور.

الآن بعد مرور عشر سنوات، يمكنني القول أنني أصبحت متسولًا محترفًا، أختار أماكن توقفي بحرفية تتيح لي جنى المال الذي يكفيني.

في مدخل شارع الثورة أمام دار المدفعية، مكاني الجديد، دائمًا ما يتوقف الطريق في هذه المنطقة، فأجوب بين السيارات بحثًا عن رزقي.

اليوم الجمعة والطرق خاوية إلى حدٍ ما، ولكنها فرصة لأن معظم منافسي لن يأتوا اليوم والرزق كله لي.. أجوب بين السيارات التي تتوقف للحظات وأرضى بالقليل الذي يُعطى لي ولا أحقد على من يتجاهلني، أو حتى يسبني.

تخونني قدمي أحيانًا، ولا أستطيع تمالك نفسي باستخدام العكاز وحده، فاستندت على أقرب سيارة لي، ولسوء حظي تحركت السيارة في هذه اللحظة، ففقدت توازني وسقطت أرضًا وسط الطريق.

قمت مسرعًا متجاهلًا ألمي والدم الذي يسيل من يدي، لألحق بالسيارة التي لا تزال متوقفة عسى أن يعطيني قائدها شيئًا.

استندت إلى سيارته وكلي أمل. نهرني على تهوري وتحرك فوقعت مرة أخرى لتأتي سيارة ثالثة وتُنهي كل مشاكلي.

الثلاثاء، 26 يناير 2016

بلا هدف



- سأقص عليك قصة.. ليست قصة بالمعنى الحرفي.. استمع إليها على كل حال.
- حسناً.
- هناك شخص ما، شاب في بداية الثلاثينات، متزوج ولديه أسرة.
هذا الشاب كان عاطلاً لظروف خاصة يمر بها تمنعه من العمل، وبالرغم من استمرار هذه الظروف إلا أن أحدهم جاءه بعمل، وكل ما كان عليه فعله هو الذهاب إلى مقابلة العمل.
لم يكن مقتنعاً بالعمل في هذا التوقيت بسبب ظروفه ولكنه كان بحاجة ملِحة إلى المال، فوافق على الذهاب.
كانت مقابلة العمل في مكانٍ بعيدٍ جداً عن مسكنه وفي منطقة عادة ما تكون مزدحمة والطرق المؤدية لها تكون مزدحمة هي الأخرى، خاصة في وقت المقابلة، لذا فقد تحرك من مسكنه في وقتٍ مبكر حتى لا يتأخر.
على عكس ما توقع وصل بسهولة وقبل موعده بساعة كاملة، قضاها في السير في المنطقة إضاعةً للوقت حتى حان موعد المقابلة فدلف إلى الشركة ليتفاجأ بأن صاحب الشركة الذي سيجري معه المقابلة لم يصل بعد، وعليه أن ينتظره.
ظل ينتظر وينتظر، والدقائق تمر وتمر حتى أصبحت ساعات.
نتحدث هنا عن وقت الانتظار الطويل.
حيث وجد هذا الشخص نفسه يجلس منتظراً رب العمل ولا يعرف تحديداً متى سيصل.. من الممكن أن يصل خلال دقائق أو خلال ساعات.
ينتابه الملل من الدقيقة الأولى، ويعبث بهاتفه الخلوي، وهو هاتف تقليدي لا شيء مثير يمكنك أن تفعله به، ولكنه يستمر في العبث به حتى يقوم بخطأ ما فيتوقف الجهاز عن العمل.
يستمر في الجلوس مرغماً يعد الدقائق، والملل يزداد لحظة بعد لحظة وهو لا يفعل أي شيء سوى الانتظار.
هل كان بإمكانه الانصراف؟ بالتأكيد كان يمكنه أن ينصرف متى شاء، ولكنه لم يجرأ.
صحيح هو ليس مقتنعاً بالوظيفة، والوظيفة نفسها لم تصبح له بعد، ولكنه مع ذلك ظل ينتظر.
- وماذا حدث بعدها؟
- ليس هذا هاماً. نحن نتحدث عن الانتظار بلا هدف. ماذا يفعل الإنسان عندما يجد نفسه جالساً بلا هدف في انتظار شيء ما؟
- لا شيء. يضيع الوقت بأي طريقة ممكنة.
- بالضبط.
- لازلت لا أفهم إلى ماذا ترمي من وراء هذه القصة؟
- هذا مؤسف.