الجمعة، 27 فبراير 2015

لقاء دوري



كعادته وصل قبل موعده بعدة دقائق، سنوات طويلة عاشها في مصر وها هو يقترب من الخمسين من عمره ولازال يحافظ دوما على الوصول قبل موعده بعدة دقائق.
كان على موعد مع محمد صديق عمره، تلك الصداقة التي استمرت لأكثر من خمسة وثلاثون عاماً، وبالرغم من أن محمد كان دائماً ما يتأخر عن موعده ولكنه استمر في الحضور مبكراً كل مرة. مئات المرات يصل قبل موعده وينتظره على المقهى، يرتشف قهوته وينهيها قبل أن يصل.
كان محمد هو الصديق الوحيد الذي تمكن من الاحتفاظ به طوال تلك السنوات، وبينما تساقط الأصدقاء الواحد تلو الأخر بقي كل منهما محتفظاً بصداقته للأخر ومعتزاً بها.
كانا في البداية يقضيان معظم وقتهما معاً، ومع تقدمهما في العمر وزيادة مسئوليات الحياة عليهما استمرا في اللقاء مرة واحدة أسبوعيا، كان لقاء دوري استمر لأكثر من عشرون عاماً حتى الآن.
ومع أن تلك اللقاءات اتخذت محنى روتيني بشكل مبتذل، وأصبح حديثهم في كل لقاء متطابق بشكل كامل مع حديث الأسبوع السابق له والأسبوع السابق للسابق إلا أنهم استمروا في اللقاء على كل حال.
كانت الحديث بينهم يبدأ بأسئلة عن الصحة والأمراض الجديدة التي ظفر بها كل منهما، ثم يتحدثان قليلاً عن عملهما وقليلاً عن أسرتهما وحال الأولاد، ثم ينشغلا بمراقبة التلفاز ومراقبة باقي زبائن المقهى حتى يأتي موعد الانصراف فيفترقا على وعد باللقاء بعد أسبوع.
انتقى طاولة في مكان هاديء نسبياً بعيداً عن التلفاز وعن السماعات المزعجة وطلب قهوته المعتادة وجلس ينتظر ويفكر.
أخذ يتذكر أيام شبابه بأحلامها الوردية، وكيف كان واثقاً من أنه حياته ستكون مختلفة عن الأخرين، وها هو أصبح نسخة كربونية من هؤلاء الأخرين.
ربما كان محمد على حق، لقد كان دائماً ما يقول نحن لم نأتي لهذه الحياة كي نختار، كل شخص يولد ليؤدي دور مرسوم له بدقة ومهما تمرد وحارب ستنهي به الحياة حيث أرادته تماماً. كانا دائماً ما يختلفان حول هذه النقطة وكان يتهمه بالاستسلام والجبن وكان محمد دائماً يجيبه بهدوء " أنت حالم يا صديقي ليس إلا، وستعرف يوماً ما أنني على حق "
ارتشف قهوته مسرعا شاعراً بدوار وألم بسيط في كتفه الأيسر، أمسك كتفه ومال برأسه قليلاً للأمام وأغمض عينيه حتى تذهب حالة الدوار.
وصل محمد ليجده على هذه الحالة، ناداه في هدوء فلم يجبه، هزه بلطف، فسقط على جانبه.
انتفض في هلع وهرع إليه ليفحصه وبدأت الدموع تنساب غزيرة من عينه
لقد تأخر عليه كالعادة، ولكنه هذه المرة وصل بعد فوات الآوان..

الثلاثاء، 24 فبراير 2015

لا جدوى



لقد تيقنت أخيراً أنه لا جدوى، حقاً لقد أخذت الكثير من الوقت حتى توصلت إلى تلك النتيجة، ولكن هذا ليس هاماً أيضاً.

مررت مثل سحابة ليلة صيف لا تحمل مطراً ولم يشعر بي أحد، وقبل أن ياتي الصباح اختفيت كما اختفت هي.

في منفاي الإجباري، جلست وحيدا كما كنت دوماً، في انتظار أن يأتي أحدهم على أمل أن يجيب على أسئلتي الكثيرة التي فشلت في الإجابة عنها.

ربما يكون حاله مثل حالي، لديه أسئلته الخاصة ويحتاج إلى إجابات، ربما نكتفي بسرد وقائع حياتنا الغير هامة لكلينا.

سنضحك على سذاجتنا وربما نبكي في حسرة..

لن يكون مهتماً حقا لمعرفة قصتي ولن أكون مهتماً حقاً لسماع قصته ولكننا سنستمر في الكلام والكلام هرباً من حقيقة أننا خدعنا أنفسنا، وكل ما نفعله الآن هو إنكار الأمر ليس إلا.

سيكون حواراً بلا هدف..

وبالتأكيد.. بلا جدوى.

الأحد، 22 فبراير 2015

ضياع



في غرفة الحجز بمطار العاصمة المكسيكية، جلس حاملاً ابنته المريضة، محاولا تهدئة روع زوجته.

كانت مشاعره مزيجاً من الغضب والألم والشعور بالظلم والقهر، كان يتساءل عن الذنب الذي اقترفوه ليتم احتجازهم بهذه الطريقة .

ساعة كاملة مرت دون أن يتحدث إليهم أحد أو يوضح لهم سبب احتجازهم، ساعة كاملة مرت ولم يتبقى لهم سوى نصف الساعة على طائرتهم المغادرة إلى وجهتهم النهائية.

كانت ابنته مصابة بالسرطان وبعد رحلة علاج بمصر اقتربت من السنتين وصلوا إلى طريق مسدود، وبعد رحلة بحث طويلة لم يجدوا سوى تلك المستشفى بمدينة تيخوانا بالمكسيك التي تستخدم طرق علاج مخلتفة عن العلاج الكيمائي والإشعاعي الذي أضر أكثر مما نفع.

أكثر من 24 ساعة مرت منذ أن بدأوا رحلتهم من مطار القاهرة ولايزال بانتظارهم طائرة أخرى لمدة 4 ساعات يبدوا أنهم لن يلحقوا بها.

أفزعته فكرة ألا يلحق بالطائرة، يجب أن يبدأ كورس العلاج من صباح اليوم التالي كما هو مخطط ولذلك يجب أن يصل إلى تيخوانا قبل الصباح أو على أسوأ تقدير يصل في الصباح الباكر.

قام وأخذ يحوم في الغرفة مثل الأسد عندما يوضع في قفص للمرة الأولى، تبدلت مشاعره إلى الغضب الشديد والحنق وشعور مخزي بعجزه عن التصرف، حاول التحدث مع الجندي الواقف على الباب ولكنه لم يكن يتحدث سوى الأسبانية التي يجهلها هو.

جاءه شخص ما وبإنجليزية ركيكة جداً حاول الاستفسار منه عن سبب الزيارة، أخذ يشرح له كل شيء وأعطاه بيانات المستشقى والفندق الذي سينزل فيه وحيداً حيث ستقيم زوجته مع ابنته بالمستشفى، ولفت نظره إلى موعد الطائرة التي أوشكت على الإقلاع ولكنه لم يبد اهتماماً بالأمر وتركه وانصرف.

مرت الدقائق ثقيلة حتى حان موعد إقلاع الطائرة ليأتيه موظف أخر ويعطيه جوازات السفر ويخبرهم أنهم يمكنهم الذهاب الآن، أخبره أن طائرته قد أقلعت بالفعل وسأله عما يفعل ولكنه فيما يبدو لم يفهمه ولم يهتم.

خرجوا إلى حيث تقبع حقائبهم بانتظارهم والساعة تقترب من العاشرة مساءاً والمطار شبه خاوي حيث صادفت الليلة ليلة الكريسماس.

بعد أن سأل كل من تواجد في المطار عما يمكنه أن يفعل الآن، عرف أنه يجب عليه التوجه إلى صالة السفر الأخرى حيث كان من المفترض أن يلحق بطائرته وحيث توجد شركة الطيران الداخلي ليحاول السفر على إحدى الرحلات القادمة.

حاملين ابنتهم وحقائبهم توجها هو وزوجته إلى الصالة الأخري ليجدا مكتب الطيران قد أغلق أبوابه ولن يفتح قبل الصباح.

في صالة السفر الكبيرة، الخالية تماماً إلا منهم، وقفوا شاعرين بالضياع التام... 

السبت، 21 فبراير 2015

عجز



جالساً في مكانه المعتاد، مكتئباً كعادته، واضعاً قدمه المصابة على كرسي أمامه، أخذ يفكر في حالته والأحداث التي أدت إليه.
لم يكن لديه شيء آخر يفعله سوى التفكير، مرت ثلاثة أشهر منذ الحادث الذي نجا منه بمعجزة حقيقية لم يتمناها بل على العكس، كم كان يتمنى أن تنتهي حياته في ذلك اليوم، بدلاً من تحمل آلام الجسد وآلام العجز.
ها هو الشاب ذو الستة وعشرين عاماً يجلس عاجزاً في غرفته بينما أخاه الأصغر الطالب اضطر إلى العمل بجانب دراسته ليتحمل الأعباء المادية لكليهما.
كان يشعر بالشفقة تجاه أخيه، بالتأكيد كانت حياته ستصبح أفضل لو اختفى هو منها، فبعد وفاة أبيهم بدلاً من أن يكون هو سنداً له جاء هذا الحادث ليقلب الأمور رأساً على عقب، بدلاً من أن يعول هو أخيه الطالب انعكست الآية ليصبح هو من يحتاج إلى من يعوله.
فكر في البحث عن عمل ولكنه ما لبث أن أزاح الفكرة جانباً بعد أن تخيل نفسه داخلاً على صاحب العمل متكئاً على عكازه، كان من المفترض أن يبدأ مرحلة العلاج الطبيعي منذ شهر ولكنهم في غنى عن المزيد من الأعباء المادية.
ولكن لابد من وجود حل فلا يمكن أن يقضي ما تبقى له من عمره مقعداً في انتظار الصدقة من أخيه، تلك الصدقة التي لن تستمر إلى الأبد ففي النهاية سيحتاج أخاه إلى أن تكون له حياته الخاصة وأن يتزوج، مثله مثل الجميع.
قام بصعوبة بالغة متكئاً على عكازيه وتوجه نحو جهاز الكمبيوتر وقام بتشغيله وذهب في رحلته الاضطرارية إلى الحمام، تلك الرحلة التي أصبحت مغامرة متكاملة منذ إصابته.
عاد إلى جهاز الكمبيوتر وجلس متألماً، دخل إلى الإنترنت وقرر أن يتفقد بريده الإلكتروني الذي لم يتفقده منذ شهور.
وجد مئات الرسائل الجديدة، بدأ في تفقدها بسأم ماسحاً الرسائل مجهولة المصدر وفجأة انتفض كمن تعرض لصاعقة كهربية، ففي وسط تلك الرسائل وجد رسالة منها.
هيَ التي حاول جاهدا نسيانها - وإن فشل - ولكنه كان يزيحها عنوة عن تفكيره كلما ضبط نفسه متلبسا بالتفكير فيها، كانت العلاقة بينهما في غاية الصعوبة عندما كان سليماً معافى والآن بعد أن أصبح عاجزاً باتت تلك العلاقة مستحيلة.
كانت قد تركته فجأة وبدون مقدمات منذ ما يزيد عن الستة أشهر، كم شعر بالتعاسة حينها ولكنه ما لبث أن تبين صواب قرارها الحكيم، ففراقهم كان محتوما، ولكن يبدو أن الحكمة قد تخلت عنها وها هي ترسل له رسالة جديدة لا يجد في نفسه القدرة حتى على فتحها وقراءتها.
لا لن يقرأها، هو متأكد أن قراءة تلك الرسالة ستزيد من تعاسته.
لا لن يقرأها، إذا تحسن حاله يوما ما ربما يقرأها وربما لا يفعل.
فحينها سيكون قد فات الآوان.

الجمعة، 20 فبراير 2015

رحلة قصيرة



كانت الدموع تملأ عينيه وهو يقف على جانب الطريق السريع.
كان الظلام دامساً في هذا الوقت، حيث تخطت الساعة الثالثة فجراً بنصف الساعة.

كانت نصف ساعة عاصفة. كان نائماً بعمق ليستيقظ فزعاً على صوت هاتفه المحمول ليأتيه صوت أخيه الأصغر الباكي ليخبره بموت أبيه:
" كان أبيك مريضاً جداً في المساء ولكنه رفض الذهاب إلى المستشفى وطلب مني الذهاب إلى النوم لأنه سيخلد إلى النوم هو الآخر. ذهبت إلى غرفتي ونمت قليلاً ثم شعرت بقلق مباغت فذهبت لتفقده فوجدته جالساً بسكون عجيب وعينيه مفتوحة قليلاً ورأسه مائله قليلاً نحو كتفه، حاولت إيقاظه ولكنه لم يتحرك، أسرعت إلى المستشفى القريب وأحضرت طبيب بعد معاناة وعدنا لنجده على حاله. فحصه الطبيب ثم أخبرني أنه توفى وذهب بعد أن أخبرني أن أذهب إليه صباحاً ليقوم بعمل شهادة وفاة له "

كانت هذه كلمات أخيه وسط البكاء والنحيب، لم يكن لديهم أقارب تقريباً، فأبيهم وأمهم المتوفية منذ خمسة عشر عاماً لم يكن ليديهما أية أخوة أو أخوات.

كان أخيه الصغير الذي لم يكمل بعد عامه العشرين يشعر بفزع وضياع ولا يعرف ما يمكن فعله في حالات مثل هذه.

طمأنه بكلمات مبعثرة وأخبره أنه سيتحرك على الفور وسيفعل ما بوسعه ليصل إليه سريعاً، وها هو يقف على الطريق السريع ينتظر أى سيارة تقله إلى وجهته أو إلى مكان يمكنه أن يجد فيه سيارة تسافر به إلى القاهرة.

كانت السيارات العابرة قليلة جداً وتعبره بسرعة متجاهلة إشاراته مما أصابه باليأس، فبدأ يمشي بجانب الطريق مع الاستمرار في التلويح للسيارات العابرة آملا أن تتوقف له إحداهم.

مشي لمدة نصف ساعة تقريباً قبل أن تتوقف له سيارة حديثة لم يتبين نوعها أو أرقامها في الظلام، وجد داخلها شابا في مثل عمره يبدو أجنبيا قليلا، وبعربية متعثرة قليلاً قال له:

- إلى أين تذهب في هذا الوقت؟

- شكراً لتوقفك، أريد أن أذهب إلى القاهرة، والدي قد توفى منذ قليل، ويجب أن أعود سريعاً، أنا مهندس وأعمل بإحدى المشروعات هنا.

هكذا أجابه وهو يلتقط أنفاسه بصعوبة.

تعاطف الشاب معه. فتح له الباب ودعاه للركوب، لينطلق مسرعاً ويخبره أنه كان متوجهاً إلى الإسكندرية ولكن هذا ليس مهماً فلا شيء مهم ينتظره هناك على أية حال وسيذهب به إلى القاهرة وسيصل به حتى بيته أيضا.

شكره بحرارة، ثم قال:

- لا تبدو مصريا، كذلك لغتك العربية متعثرة قليلاً.

ابتسم له وقال:
-  لست مصريا فعلاً، أنا أمريكي ولكني أعيش هنا منذ ست سنوات تقريبا.

-  حقاً، أشكرك مرة آخرى، وأسف أنني أفسدت مشاريعك.

-  لا عليك، فليس لدي أمر هام.

كان الطريق خالياً تقريباً مما ساعده على الانطلاق بسرعة كبيرة وما لبث بعد دقائق أن انحرف إلى طريق العلمين - القاهرة ليطلق لسيارته العنان.

كان كلاهما غارقاً في أفكاره الخاصة، كلاهما كانا من النوع الهاديء الذي لا يتحدث كثيراً، وفجأة حدث صوت فرقعة قوية واهتزت السيارة بعنف ليضغط الأمريكي على المكابح بعنف ليزداد الأمر سوءً وتدور السيارة بعنف حول نفسها وهي تتجه بسرعة كبيرة إلى جانب الطريق وما أن وصلت إليه حتى انقلبت مراراً متوغلة داخل الصحراء لتستقر على جانبها الأيمن.

حدث الأمر في ثواني معدودة، مرت ببطء شديد عليهما وكأن الزمن قد توقف.

كان يراقب محاولاته المستميتة للسيطرة على السيارة وما أن بدأت السيارة في الانقلاب حتى بدأ يصطدم بأشياء لم يتبينها وبدأت الرؤية تتحول لومضات لا تزيد عن أجزاء من الثانية.

كان الأمريكي راقداً فوقه تماماً والدماء تملأ كل شيء.. دماء لا يعرف أهيَ دماءه أم دماء الأمريكي. 
كان يشعر بآلام في جميع أنحاء جسده والخدر يزحف حثيثاً نحو جسده والرؤية تزداد ضبابية إلى أن خبت نهائياً.