الثلاثاء، 2 أغسطس 2016

دائرة القدر



وقف على أطراف القاعة المزدحمة متخفياً وسط الظلام والضوضاء ينظر تجاه العروس بحسرة.

لا يعلم لماذا يفعل هذا، ما الذي دعاه للحضور ليرى حبيبته تزف إلى غيره، كل ما يعرفه أنه كان لزاماً عليه أن يحضر.

ربما كان يتمنى نظرة حزينة تطل من عينيها اللاتين طالما هام بهما عشقاً.. نظرة حزن ترضي غروره كعاشق.. تلك النظرة التي لم يحصل عليها مع الأسف.

فالسعادة البادية عليها لا يمكن بأي حال أن تكون مصطنعة أو مزيفة. هي سعيدة حقاً، الأمر الذي اعتصر قلبه بشدة.

ألقى نظرة أخيرة ولكن هذه النظرة خص بها العريس، غريمه، هذا الرجل الذي يكبرها بخمسة عشر عاماً، فوجده يبتسم برضا، لقد انتصر عليه وإن كان في الغالب لا يعرف أن له منافس.

انسحب بعدها من القاعة بهدوء.

طوال الشهور التي تلت ذلك الموقف، كان يقضي جل وقته يفكر فيه ويستعيده المرة تلو الأخرى، مسترجعاً علاقته بها التي استمرت لأربع سنوات كاملة لتنتهي لأسباب مادية بحتة.

ما كان يحزنه حقاً هو أنها لا تعلم الأسباب الحقيقية وراء إهماله لها حتى دفعها دفعاً لتركه وإنهاء تلك العلاقة.

بعدما تخرجا من الجامعة تم قبوله في التجنيد الإجباري لتضيع سنة أخرى من العمر، وفي تلك السنة توفى والده لتقع مسئولية أسرته على عاتقه.

كان والده محاسباً بإحدى الشركات الخاصة، وبعد شهور من المعاناة استطاعوا صرف معاشه الهزيل، الذي بدا واضحاً للجميع أنه لن يكفي حاجة أسرة مكونة من أم وثلاثة أبناء غيره يدرسون في مراحل تعليمية مختلفة.

كانت أيامه في التجنيد قد قاربت على الانتهاء وكان يجلس وحيداً في الظلام في موقع خدمته عندما رأى المستقبل بوضوح أمامه.

رأى أن عليه أن يعمل بشكل عاجل، وأن يقبل بأي وظيفة يستطيع الحصول عليها ليشارك في مصاريف البيت.

وفي وضع مثل هذا لن يتمكن بالتأكيد من ادخار المال الكافي ليتمكن من الزواج، على الأقل لعدة سنوات قادمة.

ومن وقتها أصبح يتعامل معها بعصبية وإهمال مما دفعها دفعاً لتركه في النهاية.

تظاهر بعدها باللامبالاة حتى أمام نفسه، إلى أن وجد نفسه يتلصص رغماً عنه على حسابها على الفيس بوك ليستقصي أخبارها حتى علم بأمر زواجها الذي حدث بسرعة لم يتوقعها ولم يتمناها بكل تأكيد.

كان لا يزال لديه أمل في أن تتحسن أحواله، ويحاول مرة أخرى التواصل معها ويخبرها بكل شيء لتعود المياه إلى مجاريها، ولكن كل شيء انتهى الآن.

بعد عدة شهور من الاكتئاب التفت مجدداً إلى مستقبله، إلى أن جاءته فرصة للعمل بالخارج فسافر على الفور.

في الفترة الأولى من سنوات غربته كان يقضي جل وقته يتلصص على حسابها ويستقصي أخبارها التي كانت تزيد من تعاسته، خاصة كلما رأى صورة جديدة لها والسعادة تطل بوضوح من محياها.

كان مشاعر الغيرة تلتهمه لأنها ببساطة سعيدة بدونه، سعيدة وهي بعيدة عنه.

بعدها أغرق نفسه في العمل وتفرغ لجمع المال لأكثر من اثنتا عشر سنة، وأخيراً رضخ لتوسلات أمه بالعودة والاستقرار والبحث عن زوجة تناسبه.

خلال تلك السنوات تزوج اثنين من أخوته ولم يبق سوى الأخ الأصغر الذي لا يزال في سنته الأخيرة في الجامعة، وها هو يقترب من السابعة والثلاثين ولم يتزوج بعد.

كان أمه قد أعدت له بالفعل أكثر من عروس ليختار فيما بينهم. أخذ يتطلع إلى الصور بلامبالاة حقيقية حتى رآها.

كان تشبه إلى حدٍ كبير حبيبته التي ظن أنه قد اقتلع ذكراها تماماً من عقله ولكنه اكتشف أن تلك الذكريات كانت تتحين فقط الفرصة المناسبة لتنقض عليه وتتركه صريعاً مهزوماً.

تردد كثيراً قبل الذهاب لزيارتها بصحبة أمه وأخذ يماطل قدر استطاعته إلى أن رضخ في النهاية.

كان يخبر أمه أنها تصغره بخمسة عشر عاماً، ولن تقبل به بالتأكيد، بينما تؤكد له أمه أنه عريس لا يُرفض.

وحدث كل بشيء بسرعة لم يتوقعها، وفجأة وجد نفسه وسط قاعة الأفراح يراقص زوجته المستقبلية ونظرات السعادة والرضا تملأ محياها.

وفجأة ومضت فكرة في رأسه دفعته دفعاً لينظر نحو الطرف البعيد للقاعة حيث الباب ليرى ذلك الشاب يغادر في هدوء.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق